التي عرفوها في إدوم، وكانت دمشق من أكبر مراكزها، كما ساعدهم على أن يتذوقوا نعيم أهل الحضر. وكان خير ما تعلموه من حضارة جيرانهم هو حروف الكتابة الآرامية التي أسلفنا مراحل تطويرها على أيدي كتبة الأنباط وتميزهم بها، في الفصل الثاني من هذا الكتاب، وكيف أصبحت أساسًا فيما بعد الكتابة العربية.
وعلى نحو ما انتفع الأنباط بحضارة الآراميين انتفعوا كذلك بالحضارة الهيلينستية التي تعهدها السليوكيون في سوريا. وعرف الأنباط منها سك العملة، ثم تطوروا بعملتهم واعتادوا على أن ينقشوا عليها صور رءوس ملوكهم. وربما صوروا معها رءوس الملكات أيضًا. أو صوروا مع رأس الملك رأس أمه إذا كان صغيرًا وكانت وصية عليه.
وامتد الأنباط مع مسالك التجارة على ساحل الحجاز واستغلوا قوتهم مع ضعف بقايا أهل مدين واللحيانيين فسيطروا على أراضي هؤلاء وهؤلاء خلال القرن الأول قبل الميلاد، وتركزت جالياتهم في محاط القوافل الرئيسية بهذه الأراضي، وقد ذكرنا منها من قبل واحة البدع والحوراء في أرض مدين، والحجر ومدائن صالح وواحة العلا في أرض اللحيانيين.
وعندما استتب أمر حكم الرومان في بلاد الشام أيقن الأنباط أن لا سبيل لهم إلى مقاومتهم، وربما تقربوا إلى القائد الروماني أوكنافيوس بإحراق جزء من أسطول خصيمته كليوباتره. ورأى الرومان أن يستفيدوا منهم فاستعانوا بفرقة حربية منهم لمعاونة يوليوس قيصر على التخلص من حصار المصريين له في الإسكندرية، في عهد الملك النبطي مالك الثاني، كما استعانوا بجماعة منهم في حملة آيليوس جاللوس القائد الروماني على بلاد اليمن، وصحبهم فيها الدليل صالح، أوسلي أوسلاء Syllaeus كما تقدم القول بذلك وقد عرف أحد معاوني الملك النبطي عبادة الثاني في العهد نفسه باسم صالح فعلًا، كما نزلت حامية رومانية في ميناء الحوراء التي كانت قد خضعت من قبل للأنباط.
وظلت العلاقات بين الرومان وبين الأنباط في جنوب الشام بين مد وجذر، فطورًا يقتطع الرومان أرضًا من الأنباط ويهبونها لليهود، وطورًا يجاملون الأنباط ويزيدون في أملاكهم. وعلى أية حال فقد ازداد اتصال الأنباط بالحضارات الخارجية نتيجة لاتصالهم بالرومان وعملهم في جيوشهم، إلى جانب ما كانوا قد اقتبسوه من الحضارات السابقة عليهم.
وسجل الرحالة استرابون للأنباط مأثرة تذكر لهم، فروى عن فيلسوف إغريقي كان يرتبط به برابطة الصداقة، أنه نشأ بين الأنباط ورأى كثيرًا من