وهكذا كان شأن أواخرهم الذين لم يزد أمرهم عن كونهم امراء أو شيوخًا وإن أطلق عليهم الرواة ألقاب الملوك.
ولم يتضح شأن الحكام الغساسنة في المحيط السياسي قبل أوائل القرن السادس الميلادي، وكان أشهر من احتفظت الروايات البيزنطية والعربية بأعماله منهم الحارث الثاني ابن جبلة، وولده المنذر.
طال حكم الحارث الثاني بن جبلة واحدًا وأربعين عامًا ٥٢٨ - ٥٦٩م. عاصر فيها الإمبراطور يوستينيانوس، أو جستنيان، في بيزنطة، والمنذر الثالث ملك الحيرة، وكان كفئًا لهذا الأخير طموحًا مثله بدأ حروبه معه منذ العام الأول من حكمه ٥٢٨م، ليس فقط كممثلين للدولتين الكبيرتين المتنافستين دولة الروم ودولة الفرس. ولكن للتنافس بينهما كذلك على السيطرة على المناطق التي أطلقت المصادر البيزنطية عليها اسم Strata وتمتد فيما يرى نولدكه على جانبي الطريق الحربي من دمشق حتى سرجيوس إلى الشمال من تدمر. وتعاقبت الانتصارات والهزائم بين الجانبين وكانت ضاربة عنيفة كما أسلفنا في الحديث عن تاريخ المناذرة، وبحيث قيل: إن المنذر أسر ولدًا للحارث في عام ٥٤٤م وذبحه قربانًا للعزى، وأسر الحارث ولدين للمنذر في موقعة أخرى في العام نفسه، واستمر الحال هكذا حتى قتل المنذر قرب قنسرين عام ٥٥٤م، وقتل في نفس الموقعة ولد آخر للحارث، ومع ما كان في هذا التنافس من دمار مؤسف للقوتين العربيتين، ازداد سلطان الحارث مؤقتًا في أرضه وامتد نفوذه من جنوب الأردن حتى الرصافة في شمال بادية الشام، واشتهرت من مدن دولته البلقاء والصفا وحران. ولقب نفسه بلقب ملك وقيل: إنه تتوج بتاج عوضًا عن الإكليل الذي سمح الروم به لأسلافه، حتى لا تكون لخصومه المناذرة ميزة عليه، وربما أقره الإمبراطور البيزنطي على لقبه وتاجه حين زاره في القسطنطينية عام ٥٦٣م ليستأذنه في تعيين خليفته المنذر، ونعلق هذا على الاحتمال لاختلاف المؤرخين بشأنه.
على أن الواقع أن العلاقات بين الروم وبين الحارث الغساني لم تكن خالية من الشوائب دائمًا، فهو وإن أخذ وقومه بالمسيحية مثلهم إلا أنه كان يأخذ بالمذهب المونوفيستي اليعقوبي ويناصره كما أسلفنا دون المذهب الذي يناصره الروم، وكان في هذا ما أثار حفيظة بعض قساوسة الروم ضده وشكهم في ولائه لهم. وقد اتهموه بالخيانة خلال اشتراكه مع جيش بليزاريوس في حرب الفرس في عام ٥٤١م حين تراجع عن صفوف الحملة بعد أن عبر معها نهر دجلة، إما عن أنفة من التبعية له في الجيش أو نتيجة لخصومة شخصية بين القائدين.
وأعقب الحارث ولده المنذر ٥٦٩ - ٥٨١م الذي لا ندري كيف سماه باسم