للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أرباعًا، وسمح لهم قصي بالبناء حول الكعبة بعد أن كان الجرهميون والخزاعيون يقيمون على مسافة منها، وهؤلاء هم قريش الأبطح -وهو واد بمكة- أو قريش البطاح -أي: المناطق المنخفضة- وكان منهم أغلب التجار وأهل الثراء. وانتشترت بطون أخرى من قريش خارج مكة وتوزعت في الشعاب والمرتفعات، وهؤلاء هم قريش الظواهر، وكان منهم أهل سطو وإغارة.

وجمع قصي بين رئاسة الحكم في مكة وبين شعائر الحرم، وولي أمر السقاية والحجابة والرفادة واللواء. وعمل على تجديد بناء الكعبة وتسقيفها. ولكنه مع ما اجتمع له من رئاسة أمور الدنيا والدين في بلده، قد حافظ على التقاليد القبلية في نظام حكمه، وأقام دارًا للحكومة والمشورة عرفت، أو عرفت مثيلتها فيما بعد، بدار الندوة لتكون منتدى للملإ من قومه ورؤساء العشائر المشهود لهم بالكفاية والفضل ممن تخطوا سن الأربعين، وكانوا يتشاورون فيها في المعاملات الكبيرة وأمور الحرب وإقرار السلم وعقد ألوية البعوث. وربما عقدوا فيها عقود زواج أشرافهم أيضًا. ولعلها أشبهت حينذاك مجلس المسود السبأي أو القتباني والمعيني القديم. وقد بلغ من شهرتها أن رأى فيها بعض المستشرقين والكتاب الحديثين صورة من صور التنظيم الجمهوري الذي يجمع بين خصائص الارستقراطية وخصائص الديمقراطية، بل وشبيهًا بإكليزيا أثينا القديمة. وما لبث أبناء قصي وخلفاؤه أن اقتسموا مختلف صلاحياته الدينية والدنيوية عن تراض حينًا وبالتنافس حينًا آخر.

وعوضت قريش قلة إنتاجها الزراعي والصناعي بالتوسع في التجارة المحلية والعربية وكان من سلعها التي تتاجر بها بين العرب: الأدم والزبيب والصموغ والتبر والحرير والبرد اليمانية والثياب العدنية والأسلحة. وانتفعت في ذلك بالأسواق الكبرى التي كانت تعقد بالقرب منها في مواقيت متعاقبة من الأشهر الحرم لضمان أمنها. ومنها أسواق عكاظ ومجنة وحباشة وذو المجاز وغيرها.

ومنذ أوائل القرن السادس الميلادي سنحت الفرص أمام قريش وأهل الحجاز للعمل باسم العرب على نطاق واسع، وهم بمنأى عما تدخلت به وأدت إليه أطماع الحبشة والبيزنطين والفرس في شئون اليمن والحيرة وغسان. وقامت مكة بالدور الأكبر في هذا السبيل، وانتفعت فيه بتوسط موقعها في قلب الحجاز وبعدها النسبي وحصانتها الطبيعية، وحرمتها الدينية ومنزلتها الروحية بين عرب الشمال وعرب الجنوب، فضلًا على سابق خبرتها بالتجارة والوساطة التجارية بين ممالك اليمن والشام.

<<  <   >  >>