للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكانوا يتحدثون بعربية تداخلت فيها ألفاظ ومسميات عبرية اكتسبوها من التوراة أو ممن معهم من اليهود الطارئين، وقام لهم بيت يسمى بيت المدارس, كان من المفروض أن يتدارسوا فيه أمور دينهم ويفصلوا فيه في قضاياهم. ومع عربيتهم أو استعرابهم عاشوا في أحياء محدودة ومجتمع مقفل عليهم. وقد أسلفنا في الفصل العاشر كيف ربط بعض الإخباريين بين الملك أب كرب أسعد ملك سبأ وذي ريدان وبين يهود يثرب مرة بدخولهم إليها في عهده في بداية القرن الخامس الميلادي، ومرة بامتداد نفوذه إليها حينما توسع في نواحي معد والحجاز، ومرة برحلته إليها وتهوده، ومرة بتعيينه أحد أولاده عليها حيث قتل بعد رحيله عنها ... إلخ.

واعتبرت الروايات العربية الأوس والخزرج أخوين من الأزد وقضاعة هاجروا إلى يثرب بعد سيل العرم وخراب سد مأرب باليمن، وهو توقيت غير محدد بزمن صريح حيث تخرب سد مأرب في أكثر من عهد، وأصلح أكثر من مرة كما سبق التنويه بذلك في الفصل الرابع. ولهذا تباينت آراؤهم في توقيت هذه الهجرة بالقرن الثالث أو أواخر القرن الرابع، أو في القرن الخامس للميلاد.

ومرة أخرى أشاعت الروايات العبرية وما تأثر بها أو وافقها من الروايات العربية أن الأوس والخزرج اكتفوا في بداية الأمر بحياة متواضعة في يثرب في مقابل كثرة استغلال يهودها للتجارة والصناعة. وعمل بعضهم في الزراعة وتعاقدوا في حلف مع اليهود ليؤمن بعضهم بعضًا. ووجد اليهود في هذا الحلف ما يزكي وجودهم ويكفل لهم معونة الأوس والخرزج في الدفاع عن يثرب, والقيام بدور الوساطة بينهم وبين من حولهم من عرب وأعراب.

وشيئا فشيئًا أثري الأوس والخزرج وتحسنت أوضاعهم. ورأى بنو قريظة والنضير الحيلولة دون استفحال أمرهم فأهدروا حلفهم معهم واستبدوا بهم. وانكمش الأوس والخزرج زمنًا حتى استنفر هممهم زعيم الخزرج مالك بن العجلان -أو عمرو بن النعمان- وسعى معهم إلى إحراز السيادة. ويبدو أنه حالف بطونًا من قضاعة في غسان أو في غيرها من جنوب الشام، وربما حالف بعض الحميريين أيضًا، ثم فاجأ بقومه وحلفائه اليهود قبل أن يعتصموا بصياصيهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وساد هو وقومه يثرب في ختام القرن الخامس الميلادي أو بعده بقليل. ورأى بعض المؤرخين ومنهم إلفنسون أن هزيمة اليهود حينذاك في يثرب كانت انعكاسًا لهزيمتهم في اليمن، وأنها تمت في الحالين بناءً على تحريض مسيحي الحبشة في اليمن، وبناءً على تحريض مسيحي غسان في يثرب. ورأى آخرون العكس. ويلاحظ هنا أن هزيمتهم في يثرب سبقت هزيمتهم

<<  <   >  >>