للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما النظرية الأولى فثمة شواهد تدعونا إلى الاكتفاء بالخروج منها بما يحتمل من أن السبأيين عاشوا قبل تكوين دولتهم السياسية المستقرة فى منطقتها الخصبة بجنوب شبه الجزيرة العربية، على ما عاش عليه أغلب أهل القبائل القديمة لا يعترفون بحدود إقليمية مفروضة وتتفرق بطونهم بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب وفقًا لظروفها الخاصة ومصالحها الطارئة وعلاقاتها بجيرانها. ولم يكن هذا هو شأن القبائل القديمة في الشمال والوسط فقط من شبه الجزيرة العربية، بل كان شأنها أحيانًا أيضًا في الجنوب الخصيب نفسه.

ولتوضيح ذلك نعاود عرض ومناقشة قرائن هذه النظرية الأولى التى افترضت بداية حياة السبأيين في شمال شبه الجزيرة، وهي قرائن أوردها أصحابها ممن أسلفنا ذكرهم من الباحثين متفرقة في سياق مؤلفاتهم فخرجت واضحة حينًا وغماضة حينًا آخر. وهي في مجملها قرائن لا تخلو من منطقية وإن كانت في الوقت نفسه لاتخلو من شك. ويمكن أن نجملها من ناحيتنا في ثمان قرائن نعرضها فيما يلي واحدة بعد أخرى، وتعقب على كل منها بما يزكيها أو ما يضعفها.

أولًا: ذكرت التوراة كما ذكر القرآن الكريم أن حاكمة سبأية زارت سليمان عليه السلام في عاصمته أورشليم (خلال منتصف القرن العاشر ق. م)، وهي حاكمة لم تعرف حقيقة اسمها ولم يذكره لها القرآن الكريم. ولكن بعض الروايات العربية والعبرية والحبشية القديمة أطلقت عليها أسماء يلمقه وماقدة وبلقمة وبلقيس، على خلاف فيها بينها. وكلها فيما يرى أغلب اللغويين الحديثين قد تكون أسماء محرفة عن اسم إلمقه المعبود الأكبر لدولة سبأ (وذلك مع وجود احتمالات أخرى لتفسير بعض الأسماء المفترضة آنفًا لهذه الحاكمة بمعنى الزهرة في اللغة العربية القديمة، ومعنى الجارية أو المحظية في اللغة العبرية).

ولا بأس من أن نشير ابتداءً إلى أن الجدل في اسم ومكان حاكمة سبأ هذه لا يتعارض مع الكتاب السماوية في شئ، فكما أن هذه الكتب لم تذكر اسمها صراحة، فهي أيضًا لم تحدد مكان دولتها بالشمال أو الجنوب. وعلى هذا الأساس من حرية البحث نستعرض ما ارتآه فيرتزهومل وأصحابه من أن هذه الحاكمة كانت تحكم منطقة قريبة من مملكة سليمان الفلسطينية وتقديم في منطقة ما من شمال شبه الجزيرة، وذلك بحجة أنه كان من المستبعد أن تسافر بحاشيتها من أقصى جنوب شبه الجزيرة إلى مقر سليمان في أورشليم، وأنه ما من نص عربي جنوبي قد أشار إلى إمرأة حكمت سبأ الجنوبية أو وليت حكم دولة أخرى من دول الجنوب، على حين ذكرت النصوص الآشورية نحو ست ملكات عربيات حكمن

<<  <   >  >>