ومع منطقية هذا الفرض، نلاحظ أن هناك أربعة شواهد أخرى تدعو إلى إعادة النظر فيه، وهي:
أ) جاء في القرآن الكريم عن حديث الهدهد مع سليمان {فَمَكَثَ غَيْرَ، بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} وإذا عنت جملة {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قصر المدة الزمنية على الرغم من طول المسافة المكانية، وهو المرجح للدلالة على إعجاز الحدث، فإن سياق بقية معجزة الهدهد يدل على أن أرض سبأ كانت بعيدة عن مملكة سليمان بحيث لم يحط علمًا بها، ولهذا لم يقم بينهما من قبل اتصال مباشر، أو على أقل تقدير لم تكن إحداهما تحيط بأحوال الأخرى إحاطة كاملة.
ب) وجاء عن حديث الهدهد أيضًا:{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ... } ومثل هذا الثراء الذى يتوافر فيه كل شيئ أقرب إلى أن يناسب المناطق العربية الجنوبية التى كانت لها في عصورها القديمة مواردها الطبيعية والاقتصادية ذات الوفرة النسبة.
ولو كانت من المناطق العربية الشمالية فعلًا لصح التساؤل عن ثلاث ظواهر وهي: لم تظر آثار دولتها الثرية هذه في الشمال حتى الآن؟ وهل لقلة البحوث الأثرية هناك دخل في ذلك؟ ولم أهمل الرواة والمؤرخون العرب الشماليون ذكرها ولم يتفاخروا بها؟ وهل كان لبعدها الزمني الكبير عنهم دخل في ذلك؟ وأخيرًا إذا كان السبأيون قد بلغوا مبلغًا عظيمًا من الثراء في الشمال في عهد سليمان أي في القرن العاشر قبل الميلاد، فما الذي دعاهم بعد ذلك إلى النزوح إلى الجنوب؟ وهل كان لتقلبات الظروف المناخية دخل في ذلك؟ أم أنهم كانوا يقومون في عهده بدور الوساطة في نقل المتاجر الجنوبية إلى الشمال ثم طمعوا بعد ذلك في أن يسيطروا على مصادرها بأنفسهم ويقيموا عليها؟ هذه كلها تساؤلات تصعب الإجابة عنها بردود شافية للأسف فى حدود المعلومات التاريخية والأثرية المعروفة لنا حتى الآن على الرغم مما عقبنا به عليها من احتمالات شتى.
ج) ذكر القرآن الكريم جنتي سبأ وسيل العرم، وكل منهما لا شك في قيامه في جنوب شبه الجزيرة العربية دون شمالها، بعد ذكر قصة سليمان ودولته، وذلك مما يمكن أن يدل على ترتيب مقصود للتنبيه إلى الرابطة القديمة بين الدولتين، دولة سليمان ودولة سبأ، وإلى العاقبة التى انتهت إليها أمور هاتين الدولتين.