فإذا صوارخ فاستشرف هشام فإذا بجنازة معها فئام من الناس ووراء الجنازة نسوة صارخات ونادبة فيما بينهن تقول: بأبي المحمول على الأعواد المنطلق به إلى الأموات المخلى في قبره فريدا والمكون في لحده غريبا ليت شعري أيها المنقول! أنت ممن يناشد حملته؟ أسرعوا بي! أم أنت ممن يناشدهم: ارجعوا بي! إلى م تقدموني؟.
قال: فأهملت عينا هشام دموعا فلها عن لذته وجعل يقول: كفى بالموت واعظا فقالت غضيض: قد قطعت نياط قلبي هذه النادبة.
قال هشام: الأمر جد فنادى الخادم فنزل عن مستشرفه فمضى.
فأغفت غضيض في مجلسها فأتاها آت في منامها وقال لها: أنت المفتنة بجمالك والملهية بدلالك! كيف أنت إذا نقر في الناقور وبعثرت القبور وخرجوا منها إلى النشور وقوبلوا بالأعمال التي قدموها؟.
فاستيقظت مرتاعة وراحت من شرابها فنادت بعض وصائفها ودعت بماء فاغتسلت وألقت عنها لباسها وحليها وتدرعت بمدرعة صوف وحزمت وسطها بخيط وتناولت عصا وألقت في عنقها جرابا.
واقتحمت مجلس هشام فلما رآها أنكرها فنادت: أنا غضيض أمتك أتاني النذير فقرع مسامعي وعيده وقد قضيت مني وطرا وقد أتيتك لتعتقني من رق الدنيا.
فقال هشام: شتان ما بين الطربين وأنت في طربك اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى قال: أي موضع تقصدين؟ قالت: أؤم بيت الله الحرام قال: انطلقي فلا سبيل لأحد عليك.
فخرجت من دار الخلافة زاهدة في الدنيا راغبة في الآخرة سائحة على وجهها حتى بلغت مكة وأقامت مجاورة صائمة قائمة تعود على نفسها بالغزل في قوتها فإذا أمست طافت ثم تدخل الحجر وتقول: يا ذخري أنت عدتي لا تقطع رجائي وأنلني مناي وأحسن منقلبي وأجزل عطائي.
فلم تزل في الاجتهاد حتى غير مر الجديدين الليل والنهار بشرتها وطول القيام جسمها وكثرة البكاء عينيها وأقرح المغزل بنانها حتى توفيت - رحمة الله عليها - على ذلك.