للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النصيحة فأدخل فأراه الخاتم فلما نظر إليه الوالي عرفه وقال: ويحك أين صاحب الخاتم؟ قال: في الغرفة في الخان ميت وناوله الرقعة مختومة مكتوبا عليها: لا يفكها إلا المأمون أمير المؤمنين.

فركب الأمير حتى أتى الخان وحوله إلى قصره وطلى عليه الكافور والمسك والعنبر ولفه في قباطي مصر وحمله في الماء إلى المأمون وكتب إليه يعرفه قصته وأنه وجده في غرفة على بارية في بعض الخانات ما تحته مهاد ولا عنده باكية مسجى مغمض العينين مستنير الوجه طيب الرائحة.

قال: وبعث إليه خاتمه ورقعته.

فلما وصل كتابه إلى أمير المؤمنين وأدخل [علي] عليه قام فكشف عن وجهه وانكب عليه يقبله ويبكي.

ووقعت الصيحة والضجيج في الدار.

ثم فك الرقعة فإذا فيها مكتوب بخطه: يا أمير المؤمنين! اقرأ سورة الفجر إلى رابع عشرة آية فاعتبر بها واعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

ثم أمر المأمون فغسل وكفن وأخرج ليدفن والمأمون يمشي حتى صلى عليه فلما وضع في حفرته أمر الخدم فقال: اخرجوا من القبر ثم اطلع في القبر فقال: يا بني! رحمك الله وأعطاك أمنيتك ورجاءك إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تعالى قد أسعدك ونفعني بك فنعم الولد كنت جمع الله بينك وبين ابن عمي المصطفى صلى الله عليه وسلم ورزقني الصبر عليك.

ثم قال: سوؤا عليه فدخل الخدم فأطبقوا عليه ألواحه ثم قال: أهيلوا عليه التراب وهو واقف يصيبه الغبار والخدم قيام معهم المناديل يردون عنه الغبار فقال: إليكم عني! يبلى علي في التراب وتردون عني الغبار؟.

ثم قال: اللهم! ثبته بالقول الثابت وأشهدك أني راض عنه يا أرحم الراحمين - والرقعة في يده لا يضعها -.

فدعا محمد بن سعد الترمذي فأمره أن يقرأ سورة الفجر فجعل يقرأ والمأمون يبكي حتى بلغ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: ١٤] فأمسك.

فتصدق عنه بألف ألف درهم وأمر بعرض السجون وأطلق عنهم وكتب إلى العمال بإنصاف الرعية ورد المظالم ونزع عن أمور كثيرة وبقي بعده لا يذكره إلا بكى وهو مكروب لا يرتاح للذة ولا لشهوة وينتاب مجلسه الفقهاء يبصرونه ويعظونه.

فما زالت هذه حاله حتى مات رحمه الله.

<<  <   >  >>