فالصحفي يرى الأشياء من ناحية دلالتها العملية وتفسيرها الاجتماعي، حتى إن فوائد المدركات ونفعها أهم عنده من إدراكها لذاتها إدراكا فنيا خالصا كما يفعل الأديب والفنان. فالفرد العادي "ويمثله الصحفي بمستواه اللغوي العملي وبأسلوبه السريع" لا يرى الأشياء بعينه وإنما يدركها بعقله في سرعة من خلال ما تحدده له تربيته وخبرته وبيئته. أما الأديب أو الفنان فإنه يدرك الأشياء نقية خالصة. فقطعة الأرض الفضاء، مثلا، يرى فيها الفيلسوف ظواهر معينة، ويرى فيها العالم الجيولوجي مراحل وحقبا مرتبة ترتيبا زمنيا محددا، وقد يجد فيها المحارب فرصا للدفاع أو نقطة ارتكاز للهجوم، ويراها المزارع مجالا للزراعة والإنتاج والكسب. والشيء المدرك -في هذه الحالات جميعا- هو قطعة الأرض التي تتحول في غمرة الحياة الاجتماعية إلى مصالح مجردة ومنافع ذاتية. أما الأرض نفسها كشيء موضوعي له استطالته أو استدارته أو لونه أو جماله فإنها تنسى كخبرات في ذاتها، ويترجمها الإنسان العادي حالا إلى معان ويفسرها إلى أغراض. فالألوان مثلا لا ترى نقية خالصة؛ لأنها سرعان ما تستحيل إلى فوائد ودلالات: فاللون الأحمر بالنسبة للسائق لا يهمه كمدرك لوني، وإنما كمعنى للخطر. والزهرة الصفراء تعني الغيرة عند بعض الجماعات، ولكنها تدل على الأمل عند بعض القبائل الإسترالية. فاللون يكتسب معنى اجتماعيا ودلالة عملية بصرف النظر عن قيمته الموضوعية، كمدرك خالص.
وهكذا يطارد الماضي الحاضر، والمنفعة أو الدلالة تحل محل الحقيقة الموضوعية، والمغزى يمحو الواقع المحسوس، فلا يرى الشخص العادي في الأشياء إلا آمالا ورغبات وأماني ووعودا. وهذه تجعلنا نشاهد في المدركات التي نحسها طرزا ترتبط ارتباطا وثيقا بمصالحنا ومنافعنا الخاصة. أما الأشياء بشكلها الموضوعي الخالص المجرد، فلا شأن لنا بها، وإنما نرى مغزاها ومعناها، ونتائجها وآثارها، فنجد أنفسنا في النهاية غارقين في خضم ضخم من الخبرات عديمة الألوان. وما دام أسلوب المقال الصحفي هو الأسلوب العملي الاجتماعي، وما دامت طريقة الإدراك هي طريقة الرجل العادي، فإنه ينبغي على ذلك أن يكون المقال الصحفي عملي التعبير، واقعي الاتجاه.