ومع ذلك فإن أئمة الجرح والتعديل كانوا مضرب المثل في القدرة على الانتصار على هوى النفس غالبًا في هذه المعارك النفسيّة، إذْ كانوا من أقوى الناس على هزيمة دواعي الهوى وعَتادِه من الشُّبهات. كما أنه مما ساعد على تمييز الحكم الجائر عن طريق الإنصاف وتفريقه عن الحكم المنصف الغالب على حال أحكام أئمة الجرح والتعديل: أنها في غالب الأحوال أحكامٌ صادرةٌ من أئمة متعدّدين، كلهم من أهل الاجتهاد في الحكم على الرواة، وليست أحكامًا لفردٍ واحدٍ منهم لا تُعرف أحوال الرواة إلا من طريقه. وتزداد هذه الميزة ظهورًا بتعدُّدِ أعصارهم وبلدانهم أيضًا، وباختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومصالحهم ورغباتهم ومخاوفهم؛ ولذلك: لئن قَوِيَتْ أسبابُ الزلل عند واحدٍ منهم، فَتَعثَّرَ حُكْمُه في وَهْدةِ غُلُوٍّ في المحبة أو اشتطاطٍ في العداوة، على خلاف عادته في رَدْمِه وَهْداتِ الباطل وصَدِّه جيوشَ الشُّبهة والشهوة وفي كَسْرِه النفسَ السَّبْعِيّة، فإن أسباب الزلل تلك ستضعف أو تزول تمامًا عند عشراتٍ من العلماء سواه؛ لأنهم لم يقعوا تحت ضغوطها أصلا، فقالوا الحقَّ وحكموا بالعدل.