لأن قِوام الدول في زعمه هو المنافع المادية، ولأن (تطور الحياة الإِنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قِواماً لتكوين الدول)(١). طه حسين هذا لا يُقِر معنا هذه الحقيقة, لأنه يزعم للعرب أن السبيل إلى نهضتهم ليس هو ترجمةَ العلوم، ولكن السبيل إلى نهضتهم أن يذوبوا في الغرب، وأن يُخلَعوا من أنسابهم ويُقلَعوا من تُربتهم ليُغرَسوا في تربة الغرب، ولذلك فهو يهلك أموالهم في ترجمة شكسبير الذي ترجمت رواياته من قبلُ أكثر من مرة ليحابي بها بطانته وحزبه فيغدق عليهم مما تحت يده، بل هو يهلك أموالهم في ترجمة ما لُعِن به أجدادهم، وما سُبَّ فيه أسلافُهم، وسُفِّه دينهم، وافتُرِيَ على نبيهم.
ولو أنصف طه حسين، ولو أنصف كل القائمين على الترجمة في هذا البلد من مثل إدارة الثقافة بوزارة التربية ومجلس الآداب وغيرهما، لجعلوا كل همهم مصروفاً إلى نقل العلوم التجريبية والرياضية وحدها لا يشتغلون بترجمة غيرها حتى نستكمل نقصنا فيها, لأن الاشتغال بنقل كتب الأدب والفلسفة والتاريخ والتربية والأخلاق وما شاءوا من الثقافات الإِنسانية، على هذا النحو الذي تسوده الفوضى وسوء الاختيار - بل سوء القصد في كثير من الأحيان - يضر مرتين: يضر بإِفساد أذواق شبابنا وتدمير كيانهم، وتحويل شخصيتهم بحيتَ يصبحون غرباء بين قومهم، ثم يصبح قومهم بعد قليل هم الغرباء بينهم حين يكثر عددهم ويَكْثُف جْمَعُهم، ويضر مرة ثانية بتبديد الجهد والمال في غير وجهه وصرف العرب عن الطريق الصحيح إلى تحررهم ثم سيادتهم. ولو كان لي أن أقترح على اللجان الثقافية والهيئات الجامعية على اختلافها، لاقترحت أن يبدءوا بترجمة كتب المَراجع في الطب والهندسة والعلوم والزراعة التي يدرسها طلاب الجامعات العربية. فهم بذلك يصيبون غرضين: إنهم ييسرون سبل العلم للطلبة العرب ويخففون عن آبائهم بعض الأعباء، بإِغنائهم عن الطبعات الأوروبية الباهظة الثمن، والتي لا يتيسر وجودها في كثير من الأحيان, لأن أصحابها يستطيعون أن يمنعوا تصديرها إلينا حين
(١) مستقبل الثقافة في مصر ص ١٩. ويراجع في بسطه الفكرة كلها الفقرتان الثانية والثالثة ص ١٢ - ٢٠ من طبعة المعارف سنة ١٩٤٤.