مزجاة بارت في كل سوق، وكلام معاد مكرر ليس فيه جديد. ولكن أصحاب هذه المذاهب المنحرفة يعتمدون في أسلوبهم على أن الناس إذا تكرر سماعهم للباطل أوشكوا أن يصدقوه. لذلك فهم يكررون القول حيناً بعد حين ودفعةً بعد فترة، ولا يَنْضَبُ لهم مَعين في إلباس مقالهم أليق الأثواب بالمقام وعرضه من جوانب جديدة تقرِّبه من نفوس الناس.
وهم لا يسأمون من هذا التكرار, لأنهم يعرفون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً غير الذي سمعهم من قبل. وقد ينجحون في إغواء بعض من ضاقت عنه حيلهم من قبل. وهم يعتمدون مع ذلك كله على أفراد عصابتهم ممن وصلوا إلى مراكز تسمح لهم بمدِّ يد العون في ترويج هذه الدعاوى وفي وضعها موضع التنفيذ، وفيهم من يشغل مراكز خطيرة تسمح لهم بالسيطرة على الصحافة والإِذاعة ووزارات التعليم والجامعات. لذلك كان فرضاً لازماً على كل عارف بحيلهم أن لا يمل من تكرار الرد عليهم ركوناً إلى أنه قد أذاع الرد من قبل، حتى لا تنفرد دعاياتهم المفسدة بالشباب فتستأثر به ثم لا يجد ما يصححها وينتشله من تيارها ويبطل فعل سمومها.
وأول ما يلفت النظر في هذه الكلمات والمقترحات ما أنحدرت إليه مجامع اللغة العربية - ومجمع القاهرة منها بخاصة - من ترويج الدعوات المريبة إلى تطوير اللغة وقواعدها ورسمها. وهو تطوير يختلف أصحابه في تسميته، ولكنهم لا يختلفون في حقيقته. يسمون تارة تهذيباً وتارة تيسيراً وتارة إصلاحاً وتارة تجديداً، ولكنهم في كل الأحوال وعلى اختلاف الأسماء يعنون شيئاً واحداً هو التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خلال خمسة عشر قرناً أو يزيد، فضمنت لجيلنا وللأجيال القبلة أن تسرح بفكرها وتمرح في معارض فنون القول وآثار العبقريات الفنية والعقلية لا تحس قيود الزمان ولا المكان، فكأنما القرآن قد أنزل فينا اليوم وكأنما شعراء العربية وفقهاؤها وفلاسفتها وكتابها وأطباؤها ورياضيوها وطبيعيوها وكيميائيوها على اختلاف أزمانهم قد كتبوا ما كتبوا وألّفوا ما ألّفوا في الأمس القريب، وكأنما المتنبي أو البحتري يخاطب جيلنا لا تمييز بينه وبين شاعرٍ معاصر كالبارودي أو شوقي أو حافظ، وكأنما الرصافي يكتب شعره للقاهريين، وكأنما الشابي يكتب شعره