للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

للشآميين، وكأنما شوقي يخاطب بشعره أهل المغرب. وهذه ميزة منّ الله بها علينا ولم تحظ بمثلها أمة من الأمم. فإِذا تحللنا من القوانين والأصول التي صانت لغتنا خلال هذه القرون المتطاولة تبلبلتْ الألسن وأضاف كلُّ يوم جديد تطلع على الناس شمسُه مسافةً جديدة توسِّع الخُلْفَ بين المختلفين، حتى يصبح بين الشآمي والمغربي مثلُ ما بين الايطالي والأسباني، وتصبح عربية الغد شيئاً آخر يختلف كل الاختلاف عن عربية القرن الأول، بل عربية اليوم والأمس القريب، وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي والإِسلامي كلِّه متعذرة على غير المتخصصين من دارسي الآثار ومفسري الطلاسم. وعند ذلك يصبح كل جهد سياسي أو حربي أو أدبي مما يبذل اليوم في جمع شمل العرب وتدعيم القومية العربية عبثاً لا طائل تحته, لأنه كالنفخ في قربة مقطوعة أو بناء القلاع فوق الرمال أو الارتفاع بالأبراج التي تناطح السحاب على غير أساس.

وليس الخطر الكبير في الدعوة إلى العامية، ولا هو في الدعوة إلى الحروف اللاتينية، أو الدعوة إلى إبطال النحو وقواعد الإِعراب أو إسقاط بعضها، فالداعون بهذه الدعوات من صغار الهدامين ومغفليهم الذين ليس لهم خطر العتاة ممن يعرفون كيف يخدعون الصيد بإِخفاء الشِّراك. وكيف يستدرجون الناس بتزوير الكلام. إن الخطر الحقيقي هو في الدعوات التي يتولاها خبثاء الهدامين ممن يخفون أغراضهم الخطيرة ويضعونها في أحب الصور إلى الناس، ولا يطمعون في كسب عاجل، ولا يطلبون انقلاباً كاملاً سريعاً. الخطر الحقيقي هو في قبول مبدأ التطوير نفسه. لأن التسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حدٍّ معينٍ أو مدى معروف يقف عنده المُطوِّرون، ولأن التزحزح عن الحق كالتفريط في العرض، فالذي يقبل التزحزح عن الحق قيد أنملة مرة واحدة يهون عليه أمثالها مرة ثم مرات حتى يسقط إلى الحضيض. ومن اعتراه شك في حقيقة ما يراد بقرآننا وبلغته وبإِسلامنا وكل تراثه فليقرأ قول طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": (وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون، وليست أقل منا إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه، ولكنها تقبل في غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها, ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخالصة التي

<<  <   >  >>