تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلواتها. فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى، واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر، والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث، والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع (١) .. وبين المسلمين أنفسهم أمم لا تتكلم العربية ولا تفهمها ولا تتخذها أداة للفهم والتفاهم، ولغتها الدينية هي اللغة العربية، ومن المحقق أنها ليست أقل منا إيماناً بالاسلام وإكباراً له وذياداً عنه وحرصاً عليه - الفقرة ٤٦ ص ٢٢٩ - ٢٣٠ من طبعة المعارف ١٩٤٤). فإِذا وَعَى القارئ هذا القول وما وراءة فليُلْق بكل ما سواه في وجه صاحبه, لأنه ضرب من النفاق، وأسلوب في الكيد.
على أن تقديس لغة القرآن والتزامَ أصولها وقواعدها وأساليبها لم يكن في يوم من الأيام داعياً إِلى تحجر اللغة، وجمود مذاهب الفن فيها، ووقوفها عند حدٍّ تعجز معه عن مسايرة الحياة، كما يشنع به الهدامون ويخدعون به الأغرار وصغار العقول وقصار الهمم. فليس التطور نفسه هو المحظور، ولكن المحظور هو أن يخرج هذا التطور عن الأساليب المقررة المرسومة. وذلك يشبه تقيد الناس في حياتهم الاجتماعية بقوانين الدين والأخلاق. فليس يعني ذلك أنهم قد استُعبِدوا لهذه القوانين، وأنها قد أصبحت تَحُول بينهم وبين مسايرة الحياة أو الاستمتاع بخيراتها ولذائذها. ولكنه يعني أنهم يستطيعون أن يَغْدُوا وأن يروحوا كيف شاءوا، وأن يستمتعوا بخيرات الدنيا وطيباتها ويتصرفوا في مسالكها ويمشوا في مناكبها، كلُّ ذلك في حدود ما أحَل الله، وكل ذلك مع التزام الوقوف عند حدود الله. كذلك اللغة، وضع اللغويون والنحاة والبلاغيون لها حدوداً طابقوا بها مذهب القرآن وكلام العرب وتركوا للناس من بعد أن يستحدثوا ما شاءوا من أساليب، وأن يتصرفوا فيما أرادوا من أعْراض، وأن يجددوا ما أحبوا مما يشتهون ومما تتفتق عنه عبقرياتهم. ولكن كل ذلك لا ينبغي أن يخرج بهم عن الحدود المرسومة. فماذا في ذلك غيرُ ضمان
(١) ليس هذا الكلام من صنع طه حسين فهو ترديد لما قاله القاضي الإِنجليزي ولمور (١. Selden Willmore) من قبل في كتابه "عامية مصر" (The Spoken Arabic of Egypt) ص ١٥ من طبعة لندن ١٩٠١.