أو استعمال المقاييس الهندسية الدقيقة في قياس الأقمشة ومسح الطرقات، فهو إسراف في التأنق وبعثرةٌ للجهد وتضييع للوقت، لا يصبر عليه البائع ولا المشتري. ثم إن اللغة الراقية التي تنظمها القواعد لا تصلح لحاجات الحياة اليومية من وجه آخر. فقواعد اللغة الفصحى تجعل تطورها بطيئاً وصعباً، بينما لغة التعامل والأسواق تسد حاجات متغيرة يطرأ عليها كل يوم جديد لم يكن بالأمس. أما لغة الأدب فهي سجل لحالات عقلية ونفسية ثابتة متصلة، من الخير أن نحرص فيها على صلة الخلف بالسلف إلى أبعد مدى ممكن، لكي ينتفع بتجاربه فيزداد بذلك علماً ودرايةً ومتعة وذوقاً. فنحن نقرأ ما كتب في الأدب منذ آلاف. السنين فنجد فيه صورة من تفكيرنا الراهن ومن أحاسيسنا الحية. ولذلك فالأدب محتاج إلى لغةٍ أكثر استقراراً لتحقيق هذه الصلات بين القديم والجديد. وهو يحتاج إلى لغة مُصَفاة منتقاة، للكلمات فيها وللعبارات تاريخ وظلال تعوِّض بعض ما في اللغة من قصورٍ في التعبير عن مكنونات النفس وخطرات الفكر. فاللغة محدودة بكلمات المعاجم، أما الأحاسيس والأفكار التي يموج بها عالم النفس والعقل فهي خفيّة متعددة متجددة لا تكاد تدخل تحت حصرٍ في تنوعها وفي دقة الفوارق بين بعضها وبين البعض الآخر. لذلك كان لا بد للأديب أن يستعين على إتمام قصور اللغة هذا باستغلال خصائص الكلمات الصوتية واستغلال ظلال الكلمات مفردةً ومركبة. وإنما تنشأ ظلال الكلمات مما ترتبط به في تاريخها الطويل من استعمالات ومما في طبيعة تركيبها الصوتي من أسرار. وذلك كله لا يتوافر إلا في الكلمات التي صفّاها طول الاستعمال فأثبت بقاؤها على تقلب الظروف والأحوال والأزمان صلاحيتها للبقاء، والتي صقلتها ألسن القائلين وآذان السامعين وأذواق النقاد، والتي شحنها وأغناها ما تراكم حولها من المعاني والأطياف التي تقلبت بينها في تنقلها الطويل عبر التاريخ.
من ذلك كله يتضح أن لغة الأسواق شيء وأن لغة الأدب شيء آخر. وكلٌّ منهما صحيحة في ميدانها. فهما كلباس المصنع أو المهنة ولباس المسجد أو المحافل، يتخذهما العامل ويقتنيهما جميعاً، ولكنه يستعمل كلاً منهما في موضعه، فلا يلبس للمصنع لباس المسجد والمحافل، ولا يلبس للمساجد