والمحافل لباس المصنع والمهنة. كذلك الشأن في لغة التعامل اليومي وفي لغة الأدب، تمتاز إحداهما من الأخرى حسب طبيعة كلٍّ منهما ووظيفتها. وهذه ظاهرة مطَّرِدة التحقق واللزوم في كل اللغات قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها. فقد كان للناس دائمًا لغةٌ للأدب تختلف عن لغة الحديث والمساومة والتعامل منذ كان لهم أدب رفيع, لأن البدائيين وحدهم هم الذين يكتبون أدبهم بلغة الحديث. فإِذا تطور هذا الأدب وسما ارتفع عن لغة الحديث وخلَّف لغة الأسواق والتعامل وراءه. ولو اتخُذت لغةُ الأسواق لغةً للأدب على ما يريده الخادعون والمخدوعون، فتطورت وارتقت، لنشأ إلى جانبها حتمًا لغةٌ أخرى للأسواق تتحرر من قواعد اللغة الأدبية وقيودها، وتنزع عنها ما لا يُحتاج إليه مما يفيد الدقة أو الجمال حتى تُسعف البائع والمشتري والصانع والزارع والسائل والمسؤول من ناحية، ولكي تساير حاجات الحياة وشؤؤنها المتجددة من ناحية أخرى. وإذن لا نكون قد قَربنا بين اللغتين على ما يزعم أصحاب ذلك المذهب، ولكن كل ما نبوء به عند ذلك هو قطع الصلات بيننا وبين الماضي كله بما فيه من دين ومن علم ومن أدب ومن تاريخ ومن تجارب إنسانية متعددة، فهو بمثابة إعدام هذه السجلات الحافلة، مما يجعل مهمة الأحياء والأجيال القبلة صعبة جداً إلى درجة التعذر في تَقصِّي حقائق الأشياء وتأريخها.
ومع ذلك كله فالأدب بطبعه متعة عقلية وروحية. وهو بهذا الاعتبار ليس هواية شعبية. وليست الشكلة فيه هي مشكلة الألفاظ فحسب ولكنها مشكلة الأفكار والأخيلة التي تحتاج في تذوقها إلى مستوى ثقافي معين. فمهما نعمل على تيسير الألفاظ وجعلها في متناول عامة الناس فلن يستطيعوا إلا فهم ما يلائم عقولهم وثقافاتهم من الآداب السطحية التي لا تعبِّر عن أغوار الحقائق وأعماقها. ذلك هو المدلول الحقيقي لكلمة (الأدب الشعبي). فالأدب الشعبي لايتميز بلغته فحسب، ولكنه يتميز أولًا وقبل كل شيء بسطحيته في التفكير وبساطته التي تلائم السذج من البدائيين، ولكنها لا تشبع حاجات المثقفين وطلاب المعرفة من أصحاب الفكر الرفيع والذوق المرهف والمزاج الصافي الصقيل.