التصفية التي يتحدث عنها الكاتب. ومن وراء هؤلاء الأدباءِ والشعراء والعلماء الذوقُ العربي العام الممثَّل في جمهور القراء والرواة. فهم الذين يحكمون على الصالح بالبقاء لأنهم يتناقلونه خلفاً عن سلف، وينشرونه في الآفاق، بينما يحكمون على الساقط والسخيف الركيك بالموت, لأنهم يهملونه ولايكترثون له. وهؤلاء هم المحكمة الصادقة التي لا تخضع للأهواء، ولا يجوز عليها التزييف والتزوير.
وطه حسين ومَنْ ذهب مذهبه مثل مندوب حكومة تونس في هذا المؤتمر يوهمون الناس بأن هناك خطراً على العربية الفصحى أن يهجرها الناس إلى العامية إذا لم تخضع لما يريدونه من تطور (ص ٢٨٣، ٢٠٩). ويبني مندوب الحكومة التونسية على هذا الوهم أو الإِيهام اقتراحاً بأن (يشتغل عدد من علمائنا باللغات العامية وأن يدرسوها دراسة دقيقة - ص ٢٠٩) كما يقترح على المجامع اللغوية (أن تؤلف لكل قطرٍ معجمًا صغيراً - ص ٢٠٨). والذي يَنقض هذا الزعم الباطل من أساسه هو الواقع المشاهد في القديم السالف وفي الحاضر الراهن، الذي أثبت أن العربية قد عاشت جنباً إلى جنب مع هذه اللهجات المحلية أكثر من ألف عام حتى الآن.
فالخوف من إعراض أصحاب اللغة العربية عنها هو وهمٌ اخترعه هؤلاء المغرضون، أو اخترعه لهم سادتهم ثم قاموا هم بترويجه. وينقض هذا الوهم أو هذا الزعم أن العربية قد استطاعت أن تحيا خلال بيئات متفاوتة وعصور متطاولة ودرجات من الحضارة والمدنية أدناها البداوة وأعلاها ما وصلت إليه في بغداد والأندلس. استطاعت - وهي اللغة البدوية - أن تكفي حاجات ما جدَّ من علوم ودراسات. وظلت مع ذلك كله هي هي. نقرأ القرآن بعد أربعة عشر قرناً من نزوله فكأنه أُنزل اليوم، ونقرأ الجاحظ والمتنبي بعد ألف سنة أو أكثر فكأنما نقرأ لكتّابٍ ولشعراء معاصرين. وقد تجاورَت لغةُ الأدب الرفيعة ولغةُ الحديث العامية طوال هذه القرون على اختلاف البيئات فلم تَطْغَ إحداهما على الأخرى، ولم تنفر إحداهما من مجاورة صاحبتها. ومع ذلك فإِن هذا الخطر الموهوم المزعوم يكفي في دفعة - إنْ كان - أن تحُسِن الدولة القيام على تعليم العربية في مدارسها وأن تُلزِم باستعمالها في المجالس النيابية وفي دور القضاء