الباحث وأنه غير مسخّر لخدمة مذهب معين من المذاهب السياسية أو الدينية. فإِذا استوثقنا من ذلك كله بقي أن نستوثق من أنه غير واقع تحت تأثير آراء معينة تحيد به في تجاربه وفي استنباطه عن الحق، وأنه قد التزم الدقة والأمانة واعتصم بالصبر والأناة في هذه التجارب.
من أجل ذلك كثرت مذاهب النفسيين والاجتماعيين وتعدّدت آراؤهم، وأصبح كل فريق منهم ينكر آراء الآخرين أشد الإِنكار ويسفهها أشد التسفيه. فما أكثر ما نشاهد بين النفسيين والاجتماعيين من خلاف، وما أعظم ما نجد بين مذاهبهم من تفاوت يبلغ حد الطرفين المتناقضين في كثير من الأحيان. والواقع أن بحوث النفس والاجتماع ليست علوماً بالمعنى الدقيق كما يتوهم كثير من المخدوعين بها، وجل ما توصف به أنها فروض علمية يحاول مفترضوها أن يعللوا بها بعض الظواهر النفسية والاجتماعية. ولو عرف هؤلاء المخدوعون ما تتعرض له من تغير دائم لا يستقر لعلموا أن من المجازفة الخطرة الهدامة أن نترك نصوص الدين الثابتة المسلَّمة إلى هذه الفروض المتغيرة التي ينقص بعضها بعضاً، وأن كل سند أصحاب هذه الدعاوى النفسية والاجتماعية الشاردة هو الظن الذي أضل مَنْ قبلهم من الكافرين، والذي وصفه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بأنه لا يغني من الحق شيئاً.
وحقيقة الأمر في ذلك كله أن العقل ليس هو الأداة الصحيحة لبحث المسائل النفسية كلها, لأن النفس تدخل في عالم الغيب الذي لا يخضع لحاسة من الحواس، ولأن تقرير الخطأ والصواب في علم الأخلاق يحتاج لمعرفة العلة الأولى والهدف الأخير، ونحن لا نعرفهما في هذه الحياة الدنيا أو فيما وراءها. من أين جئنا وإلى أين نصير؟ وهل ذلك الذي يبدو ضاراً في اللحظة الراهنة يمكن أن يكون نافعاً في مستقبل الزمان قريبة أو بعيدة - والقرب والبعد في الزمان مسألة نسبية؟ وهل يمكن أن ندرك وجهاً من وجوه النفع فيه لو أتيح لنا معرفة ما غاب عن علمنا من بعض الظروف الملابسة له في الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ (وقصة العبد الصالح مع موسى عليهما السلام في سورة الكهف من أروع الأمثلة لتصوير هذا القصور البشري في إدراك الخير والشر).