هذا إلى أن عجز الحواس البشرية أصبح شيئاً محسوساً ملموساً تؤيده التجربة العلمية الآن. فالعين البشرية مثلاً ينحصر مدى إدراكها فيما بين الوجات الضوئية التي طولها ٠.٠٠٠٠٧ والموجات الضوئية التي طولها ٠.٠٠٠٠٤ من السنتيمتر، وهي الموجات المحصورة بين اللون الأحمر واللون البنفسجي، وهي لا تدرك بعد ذلك شيئاً مما فوق البنفسجي، ولا تدرك شيئاً مما تحت الأحمر. وقُلْ مثل ذلك في حاسة السمع وفي سائر الحواس. وإذا ثبت قصور الحواس فقد ثبت قصور التفكير البشري المبني على مشاهدات هذه الحواس.
فالتجارب والإِحصاءات إذن ليست هي الوسيلة الصحيحة لتقرير الحقيقة في مذاهب الناس وسلوكهم, لأنها محدودة بحدود الزمان والمكان والحواس. ولذلك لم يكن هناك مندوحة من الاستناد في التنظيم الاجتماعي والتقنين التربوي الخلقي إلى الشرائع السماوية, لأن موضوعها هو هذا التنظيم وجمع الناس عليه. أما العقل فميدانه المسائل المادية الخالصة كالهندسة والكيمياء، وكل ما اصطلح الغربيون في هذا العصر على تسميته بالـ (Science) ـ (١) لذلك لم تنزل الشرائع والأديان السماوية إلّا بما يدخل في عالم الغيب مما يتصل بالسلوك الذي يترتب على إدراك الخير المطلق والشر المطلق، لأن العقل البشري عاجز بطبيعة تكوينه عن إدراكه، ولو أخذ فيه لخبط في أودية من الظن والوهم الذي لا يستند إلى دليل، ولاختلف الناس فيما بينهم اختلافاً شديداً لا يجتمعون معه على رأي ولا يلتقون عند غاية. وقد ترك الدين بعد ذلك للعقل أن يسرح ويمرح كيف شاء فيما هو صالح له من ميادين البحث والمعرفة. فلم ينزل نبي من أنبياء الله بنظريات في الهندسة أو في الطبيعة أو الكيمياء - إلّا ما يكون من ذلك على سبيل إظهار العجزة - لأن ذلك من شأن العقل، وهو مهيأ له.
(١) على أن العقل لا يستطيع في كل هذه العلوم إلّا إثبات مشاهدات. وهو بعد ذلك عاجز عن معرفة حقيقة أي شيء. فالفاصل بين الِإنسان والحقيقة - كما يقول العالم الأمريكي المعاصر لنكولن بارنت - قد اتسعت فجوته بعد أن اتضح عجز حواس الإِنسان. فعلماء الطبيعة مثلاً يمكنهم أن يصفوا كيف تعمل الأشياء، ولكنهم لا يعرفون ولا يحتاجون أن يعرفوا حقيقة هذه الأشياء (راجع "العالم وأينشتين" - رقم ١٥٤ سلسلة "إقرأ" - داى المعارف. ص ٣٤، ٣٨، ٣٩، ٦٧).