أما ما وراء ذلك من عالم الغيب الذي لا يخضع لمشاهدته وحسه فهو خارج عن حدود طاقته وقدرته بحكم فطرته التي فطره الله عليها. وذلك هو معنى قوله تعالى:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، لأن الله سبحانه وتعالى حين علم عجز العقل وقصوره أرشدنا فيما هو خارج عن حدوده إلى ما فيه صالحنا رحمةً بنا. وذلك أيضاً هو السبب في جعل التسليم لحكمة الله والانقياد لأوامره ولزوم حدوده هو الأصل في التدين وهو الخطوة الأولى فيه:(إن الدِّينَ عندَ اللهِ الإِسلام). والمثل المضروب لذلك في القرآن هو قصة أبينا إبراهيم، إذ أُمر أن يذبح ابنه فانقاد للأمر هو وابنه دون أن يعرفا وجه الحكمة فيه أو يسألا عنه، فحققا بذلك ما أراد الله سبحانه من اختبارهما: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الصافات ١٠٣ - ١٠٥.
جمع الدين الناس على قِيَم الخير ومُثُله، وهي قِيَم موحدة متفق عليها، ثم جاء هؤلاء الباحثون باسم علم النفس والاجتماع ففرقوا الناس ومزقوا وحدتهم وشكّكوهم في قِيَمهم، ثم لم يستطع واحد منهم أن يجمعهم على مذهبه بعد أن فرّقهم في الدين، ولم يستطيع واحد منهم أن يقدم البرهان الحاسم على صدق مذهبه، فماج بعض الناس في بعض، وبغى بعضهم على بعض، وأصبح العلم والمعرفة عامل فرقة وفساد وإنحلال بدل أن يكون عامل سعادة ووئام، وأصبح كل مجرم لا يعدم سنداً له في تبرير دوافعه إلى الإِجرام من قواعد علم النفس المزعوم، الذي يتعقب كل ما أجمعت الأديان والأخلاق على أنه فضيلة بالنقض والتسفيه، وكأن وظيفته هي تسفيه الفضائل وتبرير الجرائم.
وليس يُفهم من ذلك كله أننا ندعو إلى مصادرة البحوث النفسية والاجتماعية والأخلاقية، فذلك ما لا يدعو إليه عاقل يؤمن بنعمة العقل والتفكير، ولكن الذي ندعو إليه أن ندرك حق الإِدراك مدى طاقتنا العقلية والفكرية، فنقيِّد أنفسنا في هذه البحوث وأمثالها مما يتصل بعالم الغيب - والتقنين الخلقي جزء منه - بقيود الدين، نلتزم حدوده ولا نعتسف الطريق حتى لا نتعرض للضلال والهلاك. فنحن إذن لا نعطل العقل، ولكننا نحفظه