للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الملل، من آثار ذلك (الجدّ) الذي عرضنا بعض نماذجه، أسمعونا في "ساعة لقلبك" - وما أظن أن القلوب المقصودة بالخطاب إلّا قلوب الفارغين والغافلين - سيلاً من الشتائم النابية، والمهارشات الفظّة الهابطة، التي لا ترعى حرمة ولا تعف عن لفظ، ورأينا تسفلاً إلى أحط المستويات الخلقية والاجتماعية، تقدمه هيئة كان يُظَن أن مهمتها هي الارتفاع بالمتخلفين إلى مستويات فكرية أرقي، وليست هي النزول بالمستمعين إلى مستواهم.

وأعجب ما يحتج به القائمون على هذه البرامج وعلى غيرها من ضروب التلهية شيء جديد من مبتكرات هذا العصر، أفتتن به القرود المقلدون أيما افتتان، ورصدت له مصلحة الفنون ومجلس الآداب شطراً كبيراً من جهودهما، اسمه "الفولكلور".

والفلكلور (Folklore) اصطلاح ظهر في أوروبا في منتصف القرن الميلادي الماضي ليدل على الدراسات التاريخية التي تتصل بعادات الشعوب وتقاليدهم وطقوسهم وخرافاتهم وأساطيرهم ومعتقداتهم وفنونهم وما يجري على ألسنتهم من أغان أو أمثال أو شتائم أو مَرَاثٍ أو أهازيج. يُدْرسُ ذلك كله من خلال الآثار والعاديات، كما تُستقصَى آثارُه الباقية في الجماعات البشرية المعاصرة. وقد انصرفت هذه الدراسة في أكثر الأحيان إلى المجتمعات المتخلفة وإلى المستعمرات، بقصد التعمق في تحليل نفوس أصحابها وإدراك دوافعها ونوازعها، وفهم ما ينتظم عواطفها وتفكيرها من منطق، بغية الوصول إلى أمثل الطرق وأحذق الخطط للتمكن منهم واستغلالهم واستدامة عبوديتهم (١). ولما استولى علينا حب التقليد للأجنبي في الشر والخير، كان من بين ما ابتُلِينا به أننا أصبحنا لا نُعجَب بأثر من آثارنا أو عادة من عاداتنا حتى نسمع تقريظ الأجنبي لها فنقرظها تبعاً له، أو نرى اهتمامه بها وعنايته بدراستها فندرسها اقتداء به. وقد ظلت "ألف ليلة وليلة" دهوراً لا يكترث لها إلّا السوقة والفارغون وأصحاب المجنون، حتى رأينا الأجانب يترجمونها ويوهمون الناس أن حياة الشرقيين ليست إلّا صورة مما تسوقه أقاصيصها، فتنبه باحثونا عند ذلك


(١) كذلك نشأت هذه الدراسات في أول أمرها، وإن كان هذا لا يمنع من أنها قد امتدت في السنوات الأخيرة إلى دراسة المجتمع الأوروبي في مختلف البلدان والبيئات.

<<  <   >  >>