لها، وتناولتها أقلامهم بالدراسة والتنقيح والتهذيب والاقتباس. وكذلك كان شأننا مع دراسات "الفولكلور". ولما كنا نجهل أهدافها الحقيقية الأولى ظننا أن المقصود هو الإِشادة بهذه الألوان الشاذة حيناً، والبذيئة حيناً آخر, والمتخلفة تارة أُخرى، فاتجه همنا إلى الدفاع عنها وتمجيدها، والمحافظة عليها وتجميدها، بزعم أنها طابعنا القومي المميز الذي لا ينفك عنا ولا ننفك عنه. وكثر خلط المخلِّطين وتهريج المهرِّجين باسم الشعب والشعبية. وأصبح الداعي إلى الترفع عن الشناعات والبذاءات وقبيح العادات وساقط الأساليب والفنون يُتهم عند سفهائهم بعداوة الشعب وبالترفع عن عامة الناس وبأنه من بقايا الإِقطاعيين والأمراء والباشوات أو من خدامهم في العهد البائد. وأصبح قصارى ما ينضح به أحدُ هؤلاء عن نفسه وما يتخذه من حجة إذا عارضك فيما تبينه من الحرام والحلال، وما تضعه من الحدود بين المحظور والمباح، أن يسوق إليك جملًا من عادات بعض الجهال أو مذاهب الفراعنة. يعارضون بذلك الإِسلام، كأن الفرعونية دين أو مذهب خلقي، وليست مجرد عصر تاريخي يجوز عليه الفساد والضلال. وكأن عرف الجاهلين والدهماء تنزيل يُعارَض به التنزيل، ومثَل أعلى يحُمل عليه ناشئةُ هذا الجيل.
وأكثر ما كان هذا الشطط في مذاهب دعاة العزلة والانفصال الذين كانوا يعارضون الإِسلام والعروبة بالفرعونية في الفترة التي تلت إلغاء الخلافة الإِسلامية بعد الحرب العالمية الأولى. فقد كان يزعم هؤلاء الغلاة من الانفصاليين والهدامين أن تغير الدين في مصر من الوثنية إلى المسيحية ثم الإِسلام، وتغيير الكتابة واللغة فيها من الهيروغليفية إلى العربية لم يقطع ما بين مصر الحديثة وبين مصر القديمة من صلات. وكانوا يحتالون لرد حياتنا المعاصرة في مختلف مظاهرها إلى أصل فرعوني قديم، ويَدْعون إلى أن تقوم نهضتنا على بعث المجد الفرعوني القديم مثلما قامت النهضة الأوروبية الحديثة على بعث التراث اليوناني والروماني في عصور الوثنية السابقة على المسيحية.
ومن هنا كان اتصال هذه الجماعة من المارقين الموكلين بتفريق شمل جماعة العرب والمسلمين بما يسمون "الدراسات الشعبية" أو "الفولكلور"، إذ دعوا الأدباء والكتاب إلى البحث عن مواضع الاتصال بين مصر القديمة ومصر