حين طغى مَدّها بعد الحرب العالمية الأولى، عن وعيٍ منهم أو عن غير وعي، مثل حافظ إبراهيم الشاعر، ومختار المثّال، وسيد درويش المغَنّي.
ولهذه الدعوة بعد ذلك جانب آخر هدَّام هو الجانب اللغوي. فأصحاب هذه الدعوة من غلاة الشعوبية الموكلين بالتفريق والتشتيت، يدعون دائمًا إلى اتخاذ اللهجات السوقية (١) التي يطلق عليها "العامية", لأنها بزعمهم أصدق تعبيراً عن روح الشعب - وكأن الشعبية عندهم مرادف للجهل - ولأن (تراث الأدب العربي) كما يقولُ أحدهم: "ليس ولا يمكن أن يكون تراث لهجةٍ بعينها من اللهجات، وأن التفنن الأدبي لا شأن له إطلاقاً بالقواعد النحوية المصطلح عليها، وأن الإِعراب ليس شرطاً أساسياً لازماً للتفنن الأدبي. فللبدو شعرهم وسمرهم الذي يصدر عنهم عفو الخاطر، والذي يفهمونه بعضهم عن بعض. وللعوام في المدن شعرهم ونثرهم الذي يتفاعلون هم وهو ولا يتفاعلون هم وغيره - العدد الأول تحت عنوان (الملحمة المصرية) ص ٥٥".
ومن الواضح أن هذا الكلام وأمثاله فاسد من الناحية الفنية الخالصة التي يحمّلها الداعون بهذه الدعوة أوزار دعوتهم في أغلب الأحيان. فالفن في صورته الكاملة وسيلة من وسائل السمو فوق الواقع اُلمسِفّ. والفن الذي يستحق أن يجهد النقاد أنفسهم في تذوقه ونقده، هو الأثر الذي أجهد الفنان نفسه في إنتاجه. فالنقاد غيُر مكلّفين بعَفْوِ خواطر البدو والعوام, لأن عَفْوَ خواطرِ العوامِّ لا يصلح إلَّا للهو أمثالهم من العوام. أما عقول المثقفين، فهي لا تجد في مثل هذا الإِنتاج لذة ولا متاعاً. فالفن الراقي دائمًا، في كل عصر وفي كل مكان وفي كل لغة، مقصور على الخواص, لأن الأثر الذي يستحق الاعتبار والبقاء لا يصدر إلَّا عن قِلَّةٍ موهوبة. ومن المسلّم به أن الموهبة
(١) تسمية هذه اللجهات بالسوقية نسبة إلى "السوق" لا إلى "السوقة" لأنها لا تصلح إلا أن تكون لغة للتعامل في الأسواق، ووجودها طبيعي في كل الأمم واللغات، ولكن في داخل هذا النطاق. فهي لغة عملية تتوافر فيها السرعة التي تصل إلى ما يقرب من الرمز في بعض الأحيان، بينما تتوافر في لغة الأدب الفصحى الأناقة والموسيقى والدقة. وكل منهما صالح في ميدانه، فلا تنافس ولا ازدواج كما يزعم الزاعمون.