للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عرضت على أصول غير معهودة في الشرع قوّت الظن بصحتها. ومعلوم أن الزنا والسرقة جنايتان عظيمتان على الأموال والإنساب، وأن الجاني إن لم يزجر عن جنايته، ويعاقب عليها. لم يكفّ عنها، فكان الزنا موجبًا الحد، لكونه جناية عظيمة (يخرج للركب) (١) هذا الجاني عنها بعقوبته. وكذلك السرقة إذا أخذت من غير حرز لم يجب القطع، لأن من لم يصن ماله فهو الذي أضاعه، ولا يحتاج إلى صيانة الشرع فيه، فإذا تحرز وأغلق على ماله ثم احتيل عليه وسرق له احتيج إلى إسناد الشرع في حصانة ماله بقطع اليد الجانية المتناولة ثم الرِّجْل الساعية إليه. وهذه معان مناسبة للحكم فلهذا سلمنا كونها عللا، ولم نسلم ذلك بمجرد الاشتقاق.

وهاهنا أيضًا ظواهر أخر منع فيها الشارع، فتجاذبها المختلفون، وهي قوله عليه السلام: "لا تبعيوا البر بالبر إلا مثلًا بمثل" الأحاديث الواردة في هذا على اختلاف ألفاظها. وقد افتتحها بالنهي عن بيع البر بالبر عمرمًا، ثم استثنى من هذا النهي ما تساوى فيه الكيل. فيقول المخالف لأبي حنيفة: قد عمّ قوله "لا تبيعوا البر بالبر" بأقل من البر أو أكثر، وما لا يمكن كيله لقلّته، وما أمكن كيله لكثرته، وأنه حكم ما جرى التفاضل فيما قل من الطعام، فلم يمكن كيله لقلته، وعموم الحديث يقتضي المنع منه، وتعليل الحديث بما ينافي عمومه لا يقبل، كتفريع على أصل يعود التفريع بإبطال الأصل.

ويجيب أبو حنيفة عن هذا بأن المراد بقوله "لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلًا بمثل" ما كان من البر يصح كيله لأن قوله "كيلًا بكيل" بيان لما تقدم، وإشارة إلى أن المراد به ما يصح كيله، والاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى فقدله "إلا كيلًا بكيل" استثناء مما يصح كيله، هذا حقيقة الاستثناء. وإذا دل الاستثناء على أنه مجانس لما استثنى منه تضمن ذلك كون المستثنى فيه (٢) مما


(١) هكذا.
(٢) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>