يكفي الإنسان لدفع غائلة الجوع. وأن كثيرًا من الأغمار الأغبياء غارقون للأذقان في الترف واللهو والفساد. وثقوا بهذه الروايات بدون تمحيص ووجدوا في تكررها على ألسنة الرواة ما يعطيها قوة القبول. مع أن الخطأ إذا تكرر لا يعطيه التكرار آية قوة. كما أن ما شاع من طريقة البحث على المثالب. التي نأسف لانتشازها بين المتعصبين من المنتسبين إلى المذاهب المختلفة، أو البلدان أو الأقاليم، قد تأيدت بسرعة التصديق لها أولًا. ثم التعميم في الحكم. فقد تجدُّ حادثة من غبي أو لئيم في مجتمع من المجتمعات، فتعمم على الجماعة التي ينتسب إليها وتلصق بنابههم وخاملهم. وكريمهم ولئيمهم. وهي من أمراض المجتمعات وسقطات الكاتبين والناقلين المروجين. والمتلقفين ممن يعتبرون النكتة حقيقة. والخاص عامًا. فكانت المدن الأخرى تبحث وتروج ما تستنقص به بغداد. فنشرف هذه الحكاية.
والذي يترجح عندي أن القاضي عبد الوهاب ما بلغت حدود خصاصته أنه يقنع برغيفين ليقيم ببغداد. لأنه ربي في بيت أبعد ما يكون عن الخصاصة، ونشأ على الكرم والسماحة. وتولى قضاء بادرايا. وباكسايا. وأسعرد. والدينور.
وحج قبيل انتقاله إلى مصر بما يبعد أن يكون قد ألجأه إلى الخروج الفقر المدقع، وأنه وصل إلى درجة الخيار بين هلاك الجوع وبين الخروج إلى مصر.
فإن من ربي هذه التربية وتولى مناصب القضاء في أربعة مراكز، من شأنه أن لا ينتظر حتى يبلغ هذا الحد من الفقر والخصاصة. وما كان للعالم الإِسلامي حدود عازلة تحول بين العالم وبين انتقاله من مركز إلى مركز آخر. نعم لم تكن الأرزاق مساعفة في أواخر مدة إقامته. ولكنا نستبعد وصولها إلى الحد المذكرر في الرواية.
فينبغي أن يبحث عن أمر آخر كان سبب خروجه من العراق. يقول القاضي عياض بعد ذكره للرواية السابقة: والله أعلم أن سبب خروجه من بغداد قصة جرت له لكلام قاله في الشافعي فخاف على نفسه، وطُلبَ، فخرج فارًا عنها (١)