باستطاعة المتفكر الباحث بحثاً تفصيلياً أن يكشف زيْفَ كلّ آرائه التي قدمها في فلسفته، ويكشف تهافتها وسقوطها، باستثناء بعض أفكار جزئية هي من قضايا المعرفة الإنسانية المشتركة، التي لا يخلو من أمثالها كلُّ مذهب باطل.
أمّا مخترعاته التي أراد أن يجعلها أسس الدين الذي ابتدعه فلا تستحق أكثر مما تستحق حكايات القصاصين الخرافيين، الذين يصنعون من الأوهام حكاياتهم.
وبصورة إجمالية أقدم للقارئ الكواشف التالية:
الكاشف الأول: إن "أوجست كونت" قد بهره أولاً العلم القائم على الملاحظة والتجربة، فحصر فيه كل الحقيقة، وانتهى بفلسفته التي سماها "واقعية" إلى ما انتهت إليه الفلسفة المادية البحت، على الرغم من أنه تحفظ بالنسبة إلى الغيبيات الثابتة في المفاهيم الدينية، فهو لم يثبتها ولم ينكرها، وذلك لأنه لم يجد في الأدلة المادية من العلم القائم على الملاحظة والتجربة ما يُقْنِعُه بوجودها، فسكت عنها، ولم يعوّل في أفكاره على شيءٍ منها.
واستبعد عن تصوُّره الأدلّة العقلية البرهانيَّة القواطع، متشبثاً باعتماد ما تَبُثُّه الملاحظة والتجربة العلمية فقط.
ولست أسوقُ هنا أدلة الإيمان بالله لكشف سقوط آراء "كونت" حول الغيبيات، لأنني استوفيت عرضها وتعرية آراء الملحدين في الباب الأول "المادية الإلحادية والماديون" من القسم الثالث من أقسام هذا الكتاب.
وأقول هنا: لقد كان الانبهار بالعلوم التجريبية ومنجزاتها سِمَة كثير من مثقفي القرن الثامن والتاسع عشر في أوروبا والغرب عامة، ولكن هذا الانبهار قد بدأ يتناقص ويأخذ طريقه إلى التلاشي، بعد أن تقدّمت المعرفة