للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السبب الثالث: كونُ المشبّه به ووجهِ الشّبه المنتزع منه مما تداول الشعراء والأدباء والكتّاب والخطباء، والمتحدّثون العاديُّونَ التشبيه به حتَّى ابْتُذِلَ واسْتُهْلِكَ.

كالتشبيه بالغزال في خفّة الحركة والرشاقة ودقّة الخصر، وكالتشبيه بالحمار في البلادة، والتشبيه بالبغل في الجلادة، والتشبيه بالكلب في اتباع صاحبه، والتشبيه بالخنزير في الخِسَّة وعدم الغيرة على إناثه.

إلى غير ذلك.

لكِنْ قد يتصرّف الأديب المتمرّس بفنون القول، في التشبيه القريب المبتذل، تصرُّفاً بديعاً يَرْفَعُهُ إلى المرتبة العليا "مرتبة البعيد الغريب" فمن هذا التصرف ما يلي:

(١) قول أبي الطيّب المتنبّي من قصيدة يمدح بها "هَارون بن عبد العزيز"

لَمْ تَلْقَ هَذَا الْوَجْهَ شَمْسُ نَهَارِنا ... إِلاَّ بِوَجْهٍ لَيْسَ فِيِ حَيَاءُ

لقد تضمَّن هذا القول تشبيه وجه ممدوحه بالشمس، وهو تشبيه قريبٌ مبتذل، لكن أبا الطيب تصرّف فيه بطريقةٍ بديعة غريبة رفعت قيمته إلى المرتبة العليا، إذْ أدخل في التشبيه عناصر غير مأْلوفة، فقد أَبَانَ دُون إفصاح صريحٍ بالتشبيه أنَّه كان من واجب الأدب والحياء أن لا تظهر الشمس أمام وجهه لضآلة ضوئها في مقابل وجهه الوضّاء، لكنَّها غير ذات حياء، فمن أجل ذلك تَلْقَى الشمْسُ وجْهَهُ مع أنَّه أعظم منها ضياءً.

(٢) قول الشاعر:

فَرُدَّتْ عَلَيْنَا الشَّمْسُ واللَّيْلُ رَاغِمٌ ... بشَمْسٍ لَهُمْ مِنْ جَانِبِ الْخِدْرِ تَطْلُعُ

فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَأَحْلاَمُ نَائِم ... أَلَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ فِي الرَّكْبِ يُوشَعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>