للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذكر ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، وإن النبي - عليه السلام - لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام فى العشر الأواخر حتى قبضه الله، وروى ابن نافع عن مالك قال: ما زلت أفكر فى ترك الصحابة الاعتكاف، وقد اعتكف النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قبضه الله تعالى وهم أتبع الناس بآثاره، حتى أخذ بنفسى أنه كالوصال المنهى عنه، وأراهم إنما تركوه لشدته، وأن ليله ونهاره سواء، قال مالك: ولم يبلغني أن أحدًا من السلف اعتكف إلا أبو بكر بن عبد الرحمن. واسمه المغيرة، وهو ابن أخى أبى جهل، وهو أحد فقهاء تابعى المدينة.

قال ابن المنذر: روينا عن عطاء الخرسانى أنه قال: كان يقال: مثل المعتكف كمثل عبد ألقى نفسه بين يدى ربه، ثم قال: رب لا أبرح حتى تغفر لي، رب لا أبرح حتى ترحمني (١).

قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-:

وإنما كان يعتكف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعًا؛ لإشغاله وتفريغًا للياليه، وتخليًا لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرًا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعلم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الإنفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه.

وهذا الإعتكاف: هو الخلوة الشرعية، وإنما يكون في المساجد؛ لئلا يترك به الجمع والجماعات، فإن الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعات منهي عنها، سئل ابن عباس -رضي اللع عنهما- عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعة قال: «هو في النار»، فالخلوة المشروعة لهذه الأمة هي الإعتكاف في المساجد خصوصًا في شهر رمضان خصوصًا في العشر الأواخر منه، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له هم سوى الله وما يرضيه عنه، كما كان داود الطائي يقول في ليله: همك


(١) انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (٤/ ١٨١، ١٨٢).

<<  <   >  >>