(٢) هذا الكلام فيه نظرٌ يتبيَّن بالوقفات الآتية: الوقفة الأولى: أنَّ هذا الكلام مخالفٌ للحديث الصحيح المرويِّ من طرقٍ عند أبي داود (٤٥٩٦) والترمذيِّ (٢٦٤٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعند ابن ماجه (٣٩٩٢) من حديث عوف بن مالكٍ، وعنده أيضًا من حديث أنس بن مالك (٣٩٩٣) عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النَّصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة» وقال الترمذيّ: (حسن صحيح)، ولفظ حديث عوفٍ: «والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار»، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «الجماعة». أفيعقل أن يكون الاختلاف بينهم في أمورٍ اجتهاديَّة سببًا لهم في استحقاقهم دخول النار؟ ! كلَّا، بل استحقُّوا هذا بارتكابهم مخالفاتٍ قطعيَّةٍ تخالف الشريعة المحمّدَيَّة، والطريقة النبويَّة. الوقفة الثانية: أنَّ قوله (بالأكثر) -على إطلاقه- قد يشمل اختلاف أهل السُّنَّة مع الخوارج والرافضة والمعتزلة والجهمية والأشاعرة وغيرهم ممن خالفُوا الجماعة وحالفُوا الضلالة، أفيكون الاختلاف مع هؤلاء كاختلافنا في أمر القبلة هل هي في اليمين أو في اليسار؟ ! . الوقفة الثالثة: أنَّ واقع الفرق في هذه الأمَّة يخالف ما ذكره الطوفيّ رحمه الله، آلاختلاف في توحيد الله تعالى بأنواعه من ألوهيَّةٍ وأسماءٍ وصفاتٍ، وفي مسائل الإيمان والوعد والوعيد، وكذا الاختلاف في أمر الصحابة، أفكلّ هذا من الاختلاف الاجتهاديِّ، الذي يكون كلٌّ من المختلِفَين معذورًا؟ !
الوقفة الرابعة: هذا الكلام فيه إبطالٌ لجهود السلف السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخبر والأثر، والفقه والنظر: في محاربتهم أهل البدع وتبيين ضلالاتهم، والتحذير منهم، وهجرهم، والبراءة منهم، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما يقول عن أهل القدر - كما في أوَّل حديثٍ من صحيح مسلم: «فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنِّي بريءٌ منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أنَّ لأحدهم مثل أحد ذهبًا، فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر». أفليس هؤلاء الذين أغلظ عليهم القول من فرق هذه الأمَّة؟ . الوقفة الخامسة: من شروط صحة القياس عدم وجود الفارق، وقد ظهر أنَّ قياس اختلاف الفِرَق على الاختلاف في جهة القبلة قد تحقَّق فيه الفارق بين المقيس والمقيس عليه، وهذا قادحٌ من قوادح العَّلة، كما هو مقرَّر في مطوَّلات كتب الأصول انظر مثلًا: نفائس الأصول للقرافي (٩/ ٤١٠٠). على أنَّ الطوفيَّ -رحمه الله- قال أوَّلًا: (أكثر العقائد) ولم يقل: (كلّ العقائد) وأيضًا: اشترط ألَّا يتضمَّن رأي بعضها كفرًا أو فسقًا بواحًا, ولكن تعليقي على ما قد يتبادر إلى الأذهان من كلامه -رحمه الله-, مع أنَّ الرجل كان مشتهرًا بالتشيُّع, فقد ذكر ذلك كلٌّ من: الذهبيِّ في العبر في خبر من غَبَر (٤/ ٣٣) , والصفديِّ في الوافي بالوفيات (١٩/ ٤٣ (, وقال: (وقيل إنَّه تاب آخرًا من الهجاء والرَّفض) , وابنِ رجبٍ الحنبليِّ في ذيل طبقات الحنابلة (٤/ ٤٠٩).