وقد عُلِمَ أنّ كثيراً من الحفّاظ وأهل الدُّربة وإدمان درسِ القرآن يتهيبون
الصلاةَ بالناس مثلَ هذه السُّور الطوال، وما هو دونَها بالشيء الكثير، وهذا
يقتضي أن أبا بكرٍ كان حافظاً للقرآن، وليس بين هذين الخبرَين معارض.
لأجل أنه ذُكر في أحدِهما صلاتُه بالبقرة، وفي الأخرى صلاتُه بآل عمران.
ووقوعِ جوابٍ واحدٍ عن ذلك، لأنه لا يمكن أن يكونَ ذلك في وقتين وفي
صلاتين، وأن يكونَ جوابُه لعمرَ قد وقع له ولغيره بلفظٍ واحد، وهذا غيرُ
مستنكرٍ ولا بعيد.
وقد تظاهرت الرواياتُ بأن أبا بكرٍ رضوانُ الله عليه بنى مسجداً بمكةَ
قبلَ الهجرة في فِناءِ داره، وأنه كان يقوم بالقرآن فيه ويدعو إلى الله وإلى
رسوله، ويشتري عِرْضَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويزيِّنُ صوتَه بالقرآن، ويكثر بكاؤه ونَشِيجُه، فإذا كان ذلك منه أسرعَ عوامُّ المشركين ونساؤهم وولدانهم يسمعون قراءته وتسبيحَه، حتى قالت عائشةُ رضوانُ الله عليها في خُطبتها:"أبي وما أبيه، أي واللهِ لا تعطوه الأيدي، ذلك واللهِ طَود منيف، وظل مديد، صدَّقَ واللهِ إذ كذّبتُم، وسبقَ إذ وثبتُم سبق الجواد إذا استولى على الأمَد، فتى قريشٍ ناشئاً وكد لها كهلاً، يكلأ عانِيها، ويُريش مملِقَها، يَرأبُ صَدْعَها، حتى خلبته قلوبُها، ثم استشرى في دينه، فما بَرِحَت تلك شكيمتَه في ذاتِ الله، حتى اتّخذَ بفِنائه مسجداً، يُحيي به ما أماتَ المبطِلون، وكان رحمةُ الله عليه غزيرَ الدمعة، وقِيدَ الجوارح، شَجِى النَّشِيج، فأصفقت إليه نسوانُ قريشٍ وولدانُها، يسخرونَ منه ويستهزئون به، (اللهُ يستهزئُ بهم ويمدُّهم في طُغيانهم يعمَهون) ، وأكبرت ذلك رجالات قريش، فحَنَّت له أفئدتُها، وفوَّقَت يمامها، وامتثلوه عرضاً فما ملوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة".