قيل لهم: أجل، يجوز أن يكونوا قد عدُّوه في عصره صلى الله عليه
عددا متفِقاً غيرَ مختلف، غيرَ أنّهم عدُّوا ذلك لأنفسِهم استعانةً به على تقييد
الحفظِ وضبط السور من غير أن يَنُصَّ لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فلذلك لم ينقل عنه شيءٌ في هذا الباب، فلما انقرض ذلك العصر ولم يُنقل ذلك العددُ عنهم لأنّه لم يكن من فرائضِ دينهم ولا مما نصَّ لهم الرسول عليه وأحْدَّهم به: ذهب على من بعدَهم العددُ الذي كانوا اتفقوا عليه في زمن الرسول، والناسُ من بعدهم يعُدُّون ذلك لأنفسِهم، وبحسب ما أدّاهم الاجتهادُ إليه.
ويجوز أيضاً أن يكونوا قد عدَّوا على عصر الرسول وعندَ القراءةِ عليه
عدّاً مختلفاً، وعرضوه على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعرَفَ اختلافَهم فيه، وأقرَّهم على جميعِه، وسنح لكل واحدٍ منهم العملَ بما غلبَ على ظنه، إذا عَلِمَ أنّه يقصد
بذلك تقييدَ حفظِه وضبطَه، والاستعانةَ عليه، ولم يكن الله سبحانه قد أمره
بتوقيفهم على حذً محدودٍ وشيءٍ معلومٍ في ذلك ولا ألزمَهم إيَّاه، فما ندري
أنّه كان ذلك كذلك، فكيف كان حقيقةُ هذا الأمر منهم على زمن الرسول.
وقد يجوزُ أيضاً أن لا يكونوا تشاغلوا بعدد متفَقٍ ولا مختلَفٍ في زمن
الرسول، بل أقبلوا على حفظ القرآن فقط على سياق آياتِ سُوَره وتعرُّفِ
أحكامه وحلاله وحرامه، ورأوا أن التشاغلَ بعدد الآي ومواضعِ الفُصُول من
السور شاغلٌ لهم عن حفظ القرآنِ نفسِه وتعلمِ ما يُحتاجُ إلى العلمِ به من
أحكامِه، ويكونُ حالُهم في ذلك حال خَلْقٍ من حُفّاظ القرآن في هذا الوقت، الذين يحفظونه ويتقِنُونه ولا يشتغلون بوضعِ عددٍ لآياته من عند أنفسِهم
وعلاماتٍ لهم على مواضع الفصول، ولا يتعرَّف ما قاله غيرُهم في العدد
لاعتقادِهم العناءَ به والاشتغالَ بما هو أهمُّ وأمسّ، من علمِ تأويله وأحكامِه