معتدلاً لوجبَ في مستقِرّ العادة نقلُ ذلك وظهورُه وحفظُ الأمّة له، وعلمُهم
به وتأثيمُ مَن خالفَ المنصوصَ عليه في ذلك، وتخطئةُ مَن عدلَ عن الواجبِ
عن معرفةِ ما فُرِضَ العلمُ به، ويجري أمرُهم في ذلك وتخطئته على حسب
ما جرى أمرُهم عليه من حفظِ للقرآن نفسِه، ومعرفةِ نظمِه وترتيبِ آياتِه
وكلماتِه، وعلى وجهِ ما أوجبَ حفظَهم لترتيبِ صلواتِهم وما يجبُ أن يكونَ
متقدّماً منها ومتأخّراَ، وما يُفعلُ منها في النهار دونَ الليل، وفي الليل دونَ
النهار، وغيرِ ذلك من فرائضِ دينهم الواجبةِ عليهم، والتي وقعَ النص لهم
عليها وقوعاً شائعاً ذائعاً.
ولما لم يكن ذلك كذلك ولم يدّعِ أحد من أهل العلم أنّ رسولَ الله
- صلى الله عليه وسلم - كان قد نص على ذكرِ أولِ ما أُنزل عليه من القرآنِ وآخرهِ نصّاً جَلِيا ظاهرا فَرْضُ علمِه، ولم يكن بينَ سَلَفِ الأمّةِ وحلَفها اختلاف في أنّ العلمَ بذلك ليس من فرائض الدين، وأنه مما يَسَعُ الإبطاءُ عن علمه والسؤالُ عنه، ولا يأثمُ التاركُ للنظرِ فيه إذا قرأ القرآنَ على وجهه ولم يغيّرْهُ عن نظمه ولم يَزِدْ فيه ولم يُنقِص منه: عُلِمَ بهذه الجملةِ أنه لا نصّ من الرسولِ قاطع على أوّل ما أُنزل عليه من ذلك وآخرِه، وعلى تفصيل مكّية ومدنيّه، وإذا ثبتَ ذلك بطلَ ما حاولتُمُوه.
وممّا يدلّ أيضا على صحّةِ ما قلناه أنّ المختلفين في ذلك من الصحابة
لا يرَونَ اختلافَهم فيه عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بل إنّما يُخبرون بذلك عن أنفسِهم وما أدّاهم إليه اجتهادُهم واستدلالُهم بظاهرِ الأمر، وإن روى بعضهم في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً لم يَرَوْهُ نصّاً قاطعاً، وإنّما يُحكى عنه قولاً مُحتَمِلاً، وقصّةً للتأويلِ والظنون عليها سبيل وطريق، وليس يجبُ اتفاقُهم على ما هذه سبيلُه، ولا أن يكونَ نقلُهم لما سَمِعُوه منه في هذا