ويقول تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) .
ويقول تعالى ذكره: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) .
ويقول: (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥) .
ويقول سبحانه: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ) .
ويقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا) .
يمكن أن يتفق من مثل الصدر الأول مع شدة تَبيّنهم وتشدّدهم وتبسُّطهم
وتمسُّكهم بالواجب عليهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة دينهم.
والجهاد عن نبيهم، وقتل الآباء والأبناء في طاعته، وفرض الاتّباع له، أن
يغفُلوا عن حفظ كتاب الله وضبطه، مع ما قد سمعوه من تعظيم الله سبحانه
لشأن كتابه وإجلاله، والأمر بالرد إليه والإذعان لحكمه، وهم قد علموا مع
ذلك أنّه أسُّ دينهم، وأصل شريعتهم، وأنّ الصحيح ما نطق بصحته والباطل
ما أفصح بفساده.
وهم مع هذه الحالة التي ذكرناها من حياطة الدين، وبذل النفوس
والأموال، ومفارقة الأوطان في نصرة الرسول، من ذرابة الألسن، وجودة
القرائح، وثاقب الأفهام، وسهولة الحفظ عليهم، ولصوق الكلام بقلوبهم.
على حال لم يكن عليها أحدٌ قبلهم، ولا ساواهم فيها أحدٌ بعدهم، فإذا لم
يكن بهم من قلَّة الدين والتهاون بأمر رب العالمين، وشأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم على ترك الإحفال بالقرآن، والتصغير لشأنه، ولم يكونوا من سوء الإفهام وجلافة الطباع، وقلة الحفظ وتعدد الكلام، والعيّ واللّكنة، بحيث يصدهم ذلك عن حفظ كتاب ربّهم، ومدار شريعتهم، فأيُّ سبب يقتضي جواز توافي هممهم ودواعيهم على ترك تحفظ القرآن وضبطه، والتشاغل