تلاوة الرسول لها، وإخباره بنزولها، أو واحداً ممن خبّر بذلك، وجاءته
الأخبارُ من كل طريقٍ وناحيةٍ مجيئاً لا يمكنُ معه الشكّ في ذلك، كما لا
يمكنه الشَّكّ في جميع ما ظهر وانتشر من دين الرسول وأقواله وأفعاله التي
لم يسمعها منه ولم يشاهدها، ولو تهيّأ لأحدٍ من أهل عصر الرسول أن يشكَّ
في نزول المعوّذتين وتلاوة الرسول لهما طولَ حياته، وإلى بعد وفاتِه بخمسٍ
وعشرين سنة، والحالُ ما وصفناه لأمكنه لحقُ ذلك.
وفي العلم بفسادِ هذا ولزوم العلم بما وصفناه لقلوبنا وزوال الريب عنَّا: دليل واضح على أنّه لقلب عبد الله ألزَمُ، وأنّه عنده أظهرُ وأشهرُ، وإذا
كان ذلك كذلك بأن أنّ عبد الله بن مسعود لا يجوزُ منه مع عقله وتمييزه
وجَرَيان التكليف عليه، أن يحمل نفسه على جحد المعوذتين وإنكار نزولهما
وأن الله تعالى أوحى بهما إلى نبيّه - صلى الله عليه وسلم -.
ومما يوضح ذلك أيضاً ويُبيّنه أنّه لو كان عبدُ الله قد جحد المعوّذتين
وأنكرَهما مع ظهور أمرهما وإقرار جميع الصحابة بهما لم يكن بُد من أن
يدعوه داعٍ إلى ذلك وأن يكون هناك سبب يَعتدّ عليه، ولو كان هناك سبب
حداه على ذلك وحزَكه لخلافٍ فيه لوجب في موضوع العادة أن يحتجّ به
ويذكره ويعتد به، ويُبدِيَ ويُكثِرَ اعتذارَه له وتعويله عليه، ولكان لا بُدَّ أيضاً في مقتضى العادة من ظهور ذلك عنه وانتشاره وحصول العلم به، إذا كان خلافاً في أمرٍ عظيم وخطرٍ جسيمٍ، وأعظمَ مما نُهي عنه من الإقامةِ على
التطبيق في الصلاة، وقوله في تزويج بنتِ فاسق، وخلافه في الفرائض.
وغير ذلك، مما شُهِرَ من مذاهبه وكلَّما عظُم الخطرُ في الأمر وجل وقعُه في
النفوس كان الخلافُ فيه أظهر والعنايةُ به أشدّ، واللهجُ بذكره وتطلّب
النقض والرد له أكثر وأشهر.