وإذا كان الأمرُ على ما وصفناه ثبتَ بهذه الجملةِ حصولُ العلم لنا بأنَ
الله تعالى قد كان نَسخَ أشياءَ كثيرةً من كتابه بعدَ أن أنزلها على رسوله.
فيجبُ حملُ جميعِ ما رُوِيَ عن الصحابةِ والتابعين من ذهاب قرآنٍ كثير
وسقوطِه وقولهم لمن ادّعى جَمْعَ القرآنِ كله:"فما يدريك لعله قد ذهبَ
قرآنٌ كثيرٌ لم يوجد بعد" على التأويل الذي وصفناه، وهذا بَينٌ في سقوط
جميعِ ما يتعلَّقون به من هذه الألفاظ.
وليس على جديدِ الأرض أجهلُ ممن يظُنُ أن الرسولَ والصحابةَ كانوا
جميعا يُهملون أمرَ القرآن ويعدِلون عن تحفُظه وإحرازِه ويعوِّلون على إثباته
في رقعةٍ تُجعَلُ تحتَ سريرِ عائشةَ وحدَها، وفي رقاعٍ ملقاةِ ممتهَنةٍ حتى
دخلَ داجنُ الحى فأكلَها أو الشاةُ ضاع منهم وتفقَت ودرسَ أثرُه وانقطعَ
خبره! وما الذي كان تُرى يبعثُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا التفريطِ والعجز والتواني وهو صاحبُ الشريعة والمأمورُ بحفظِه وصيانتِه ونصب الكَتَبةِ له، ويَحضُرُه خَلْقٌ كثيرٌ متبتلون لهذا الباب ومنصوبون لكتبِ القرآنَ الذي يَنزِل وكتبِ العهودِ والصلح والأمانات وغير ذلك مما نزل ويَحدُثُ بالرسول خاصةً وبه حاجةٌ إلى إثباته.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يَعرِضُ القرآنُ في كل عام، وعَرَضَهُ في العام الذي ماتَ فيه عرضتَين، ويقولُ لهم:"إذا أُنزِلَت الآية ُ ضعُوها في السورة التي يُذكَر فيها كذا" وينظمُ لهم الآيات ِ في السور، ويقول لعمرَ وقد قال له في آيةِ الرجم "الشيخ والشيخة": ألا نُثبِتُها يا رسولَ الله، قال:"لا أستطيعُ ذلك "، يعني: أنها قد نُسِخَت وأُزيلَ رسمُها وبقيَ حكمُها، وسنذكر في بابِ جمع أبي بكرِ القرآنَ جملةً من ألفاظِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إثباتِ ما نزل عليه من القرآن مما قاله لأبيٍّ وزيدِ بن ثابتٍ وغيرهما.