علي بذلك وجماعة بعده من الفقهاء أصحابه وأدخلهم عليه فإذا به قد أظهر انهداد (قواه)، وضعف منطقه ودني الفقيه منه، فقال له: يا أبا فلان، أشهد الفقهاء- حفظهم الله- على بيعك مني. فقال له: أشهدكم أن الفقيه اللؤلؤي هذا قابلي متعمدًا لقتلي، وأنه الأخوذ بدمي، فإذا حدث بي حدث الموت استقيد منه لي فبعنقه دمي، وأنتم رهناء بالصدق عني، فدهش الفقيه ومن معه وأقبل على الرجل يتثبت ذهنه ويذكره ما جرى بينه وبينه ويخوفه الله ويعظه وسلك أصحابه في ذلك سبيله، فلم يرجع عن ذلك فخرجوا عنه.
وسألهم اللؤلؤي أن يتوفقوا عليه ساعة بالباب ليخلوا به؛ ففعلوا وتفرد به وعزله وقال له: تعصي الله في أمري وتدمي في غير حق علي؟ فقال له: وهل قلت إلا ما فعلت، دخلت علي وأنا أحسبك عائدًا مشفقا، فسررت بذلك وإذا بك باغي فرصة فلما مستني في سويداء قلبي في أمر هذا الحقل المشئوم فما تعلم كرهه إلي فزعتني وأتيت علي، فهل أردت إلا قتلي إذا طلبت أخذ كريمة مالي؟
فاعتذر إليه اللؤلؤي، وقال: إنه تائب معترف بخطئي، فأبقي الله في فبعد لأي ما أجابه إلى ذلك. وقال له: أما وقد صرت إلى هذه الإنابة، فاحلف بالأيمان اللازمة أنك لا تلتمس هذا الحقل في حياتي ولا بعد مماتي، ولا تسعى لملكه ولا تصييره إليك ببيع ولا غيره وأن تحرمه على نفسك ولو صار إليك بميراث أغيره وأنك لا تهم لي تعد ذلك بمساءة، ولا تحقد بعد (ذلك) على ذريتي، فحلف له بذلك كله، وتوثق منه فيه، وعند ذلك أذن له بإدخال الفقهاء عليه فلما دخولا أشهدهم أنه قد عفا عنه الله تعالى وأسقط عنه تبعة دمه.
فقال له اللؤلؤي: إنما أريد أن يكذب نفسك وتعود (لشأنك)، هذا هو الحق فإن أقنعك عفوي عنك وإلا فإني على ما عقدته عليك. فرضي منه اللؤلؤي بذلك وتوثق من الإشهاد به عليه، واتخذ حديثه معه موعظة اعتقد بها ألا يفتي في تدمية بعدها.
وتوفى اللؤلؤي سنة خمسين وثلاث مائة، وقيل سنة إحدى وخمسين بعدها أول دولة الحكم رحمه الله، وأدخلت حكايته هذه لما فيها من استحلاف الرجل له بالأيمان اللازمة، ولست أعرف لها ذكرا في أبعد من وقت هذه الحكاية، وفيها دليل على إلزام الحالف فيها ما قد ذكرناه من وجوهها، وإنما لم تكن عندهم كل شيء، كما يذكر عن بعض المستخفين من المتسمين بالعلم من (معاصرينا) منحنا الله بفضله هداه وألهمنا تقواه وما (تجود) به رضاه.