هذا، وقد تقدم لك أنه ورد عدة أحاديث في طلب الاقتداء بالصحابة فيما فعلوه، ومما فعلوه مرسوم المصاحف، وقد أجمعوا عليه وهم -رضي الله عنهم- اثنا عشر ألفا فيجب علينا اتباعهم، وتحرم علينا مخالفتهم في ذلك.
فيجب على كل من أراد كتابة مصحف أن يكتبه على مقتضى الرسم العثماني، فإن كتبه على مقتضى الرسم القياسي، فقد خالف الأحاديث الواردة في طلب الاقتداء بالصحابة، وخالف ما أجمع عليه الصحابة، وخرق إجماع من بعدهم من علماء الأمة، قال أشهب: سئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا ...
إلا على الكتابة الأولى: رواه الداني في المقنع، وقال الإمام أحمد بن حنبل: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أوياء، أو ألف، أو غير ذلك، وقد نقل الجعبري، وغيره إجماع الأئمة الأربعة على وجوب اتباع مرسوم المصحف العثماني، وقال في المقنع بعد أن ذكر جواب مالك المتقدم، ولا مخالف لمالك من علماء الأمة.
وهذا كله يرجع إلى مصطلح الرسم، وأما النقط والشكل ونحوهما فقد قدمنا الخلاف فيا عند قول الناظم: ومالك حض على الاتباع لفعلهم، إلخ.
كما لا تجوز مخالفة خط المصاحف في رسم القرآن لا يجوز لأحد أن يطعن في شيء مما رسمه الصحابة في المصاحف؛ لأنه طعن في مجمع عليه؛ ولأن الطعن في الكتابة كالطعن في التلاوة، وقد بلغ التهور ببعض المؤرخين إلى أن قال في مرسوم الصحابة ما لا يليق بعظيم علمهم الراسخ، وشريف مقامهم الباذخ فإياك أن تغتر به.
وهذا إذا قلنا أن مرسوم المصاحف: اصطلاح من الصحابة، وأما إذا قلنا: أنه من إملاء النبي صلى الله عليه وسلم على سيدنا زيد بن ثابت، من تلقين جبريل عليه السلام كما نقله بعض العلماء، فالطاعن فيه طاعن فيما هو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهد لكونه من إملائه صلى الله عليه وسلم ما ذكر صاحب الإبريز عن شيخه العارف بالله سيدي عبد العزيز الدباغ أنه قال: رسم القرآن سر من أسرار المشاهدة وكمال الرفعة، وهو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن، ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف، ونقصانها ونحو ذلك لأسرار لا تهتدي إليها العقول إلا بالفتح الرباني، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، فكما أن نظم القرآن معجز فرسمه معجز أيضا، انتهى.