حضوراً بنى أوّل الكلام على ما هو مبادىء حال العارف من الذكو والفكر والتأمّل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه، وباهر سلطانه ثم قفي بما هو منتهى أمره، وهو أن يخوض لجة الوصول، ويصيره من أهل المشاهدة، فيراه عيانا إنه عطف تفسيريّ وليس المراد بالشهود الرؤية الحقيقية لعدم وقوعها وإن لم يمتنع بل التوجه التامّ لحضرة القدس والإعراض عما سواه:
وثمّ وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة
وقوله بنى أوّل الكلام إلخ جملة مستأنفة استئنافا بيانياً، أو مفسرة ومبينة لما قبلها فلذا لم تعطف، وقيل: الأولى أن يذكر في مبادي حاله تهذيب الظاهر بوظائف العبادات المستفاد من الحمد إن كان بمعناه العرفي ودلالتة إن حمل على المعنى اللغوي لأنّ من عرف أنّ جميع النعم له يلزمه أن ث ممره بجميع الموارد وقيل أواسط حاله الإيمان بالشرع وما لا طريق للعقل إليه إلاً من جهة الوحي رجاء وعده ووعيده وقد تضمنه {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فلم يفت النظم أواسط حاله وفيه نظر إذ كيف يكون الإيمان بالشرع من أواسط حال العارف بل أواسط حاله تزكية البطن عن الأخلاق الرديئة، والملكات الذميمة وتخلقه بأضدادها والجتة والنار صورة تلك الأخلاق، فمالك يوم الدير، فيه إشارة إليها لكن لا كما توهم، ويمكن أن يقال التحلي بالأخلاق الفاضلة والتخلي عن الملكات الرديئة من مقتض الرحمة الرحمانية لأنه من النعم الجليلة الدنيوية، وجزاؤه في الآخرة من مقتضيات الرحمة الرحيمية فالاسمان يشعران بأواسط حاله، وهذا كله تكلف ناشىء من الغفلة عن قوله العارف فإنه في اصطلاحهم من أشهده الله ذاته وصفاته، وأسماءه وأفعاله والعارف تكفيه الإشارة. قوله:(من الذكر إلخ) الذكر من الجلالة أو من جملة الحمد لله لأنه ذكر للأوصاف الجميلة إجمالاً والفكر في الآفاق والأنفس من رب العالمين، والتأمّل التدبز دماعادة النظر مرّة بعد أخرى في الشيء حتى تعرفه من الأمل، وهو الرجاء كأنك كنت ترجوه والآلاء بالفتح والمد جمع إلى بكسرة الهمزة وفتحها مع فتح اللام، وئبسكونها بمعنى النعمة من الرحمن الرحيم، والاستدلال من مالك يوم الدين، والظاهر أنه من الرحمن الرحيم أيضاً والمشاهدة المذكورة من الخطاب والصنائع جمع صنيعة وهي الإحسان، أو صناعة والتعبير بالتأمّل في الأسماء والنظر في الآلاء ظاهر، والباهر من بهر بمعنى فضل وغلب، السلطان الحجة والولاية والسلطنة وكل منها صحيح هنا، وهو إشارة إلى مقامات العارفين في السلوك والسير إلى الله فتدبر. قوله:(ثم قفى إلخ) قفى بالتخفيف بمعنى تبع وبالتشديد بمعنى أتبعه كأنه جعله خلف قفاه.
قيل وفيه بحث أمّا أوّلاً فلأنّ منتهى حال العارف مرتبة حق اليقين والظاهر أنّ ما ذكره
إشارة إلى مرتبة عين اليقين وامّ ثانياً فلما ذكره بعض العلماء من أنّ الخطاب لا يقتضي إلآ كون المتكلم بحيث يراه المخاطب، ويسمع صوته لا كونه رائيا للمخاطب ومشاهداً له، وفيه نظر لأنه لا يفهم من كلام المصتف استدعاء الخطاب مطلقا شهود المتكلم بل يفهم أنّ الخطاب
الواقع بعد إجراء الصفات الموجبة لليقين يوجب كون المخاطب كأنه مشاهد ولا شبهة في صحة هذا الكلام، والجواب عن الأوّل أنّ هذا منتهى السير إلى الله فلذا عدت منتهى حاله، وفب نظر لا يخفى، ومنتهى اسم مفعول أو مصدر ميمي بمعنى النهاية والخوص الدخول في الماء، والمجة الماء المجتمع من البحار ونحوها وهو استعارة تمثيلية أو يخوض استعارة تبعية بمعنى يشرع، واللجة ترشيح له أو لجة الوصول من قبيل لجين الماء، والمراد من العين الذات المعاينة، والأثر فسر هنا بالخبر، وهو المناسب للسمع ولمراده إذ المراد الدعاء بأن يكون ممن كثف له الغطاء فلم يقف على السماع والمعروف في الأثر المقابل للعين أنه بمعنى العلامة، وفي المثل لا أثر بعد عين، والمناجاة المكالمة، والشفاه مصدر بمعنى المشافهة. قوله:(ومن عادة العرب إلخ) قدّم المصنف رحمه الله نكتة إلالتفات الخاصة بهذا المقام لشدة ارتباطها بتفسيره، وللاهتمام بها.
٣ أشار إلى فائدته العامّة من جهة المتكلم وهي التصرّف في وجوه الكلام واظهار القدرة عليها، ولذا قال ابن جني رحمه الله إنه شجاعة العربية، وأردفها بفائدة أخرى من جهة الكلام، وهي التطرية أي تجديد أسلوبه وابراز عرائس المعاني في حلة بعد حلة، وفائدة أخرى من جهة السامع وهي تنشيطه وله فوائد خاصة بكل مقام كما أشار إليه أوّلاً بقوله ليكون إلخ. والتفنن ط لإفتنان الإتيان بفنون، وأنواع من الكلام