وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَلِيمَةٍ فِي الْكُوفَةِ وَفِيهَا الْعُلَمَاءُ وَالْأَشْرَافُ، وَقَدْ زَوَّجَ صَاحِبُهَا ابْنَيْهِ مِنْ أُخْتَيْنِ، فَغَلِطَتْ النِّسَاءُ فَزَفَّتْ كُلَّ بِنْتٍ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا وَدَخَلَ بِهَا.
فَأَفْتَى سُفْيَانُ بِقَضَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْمَهْرُ وَتَرْجِعُ كُلٌّ إلَى زَوْجِهَا.
فَسُئِلَ الْإِمَامُ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْغُلَامَيْنِ فَأَتَى بِهِمَا فَقَالَ: أَيُحِبُّ كُلٌّ مِنْكُمَا؟ أَنْ يَكُونَ الْمُصَابُ عِنْدَهُ؟ قَالَا نَعَمْ.
قَالَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا: طَلِّقْ الَّتِي عِنْدَ أَخِيك فَفَعَلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِتَجْدِيدِ النِّكَاحِ فَقَامَ سُفْيَانُ فَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
وَحَكَى الْخَطِيبُ الْخُوَارِزْمِيُّ أَنَّ كَلْبَ الرُّومِ أَرْسَلَ إلَى الْخَلِيفَةِ مَالًا جَزِيلًا عَلَى يَدِ رَسُولِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ؛ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك اُبْذُلْ لَهُمْ الْمَالَ وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوك فَاطْلُبْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ فَسَأَلَ الْعُلَمَاءَ فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا فِيهِ مُقْنِعٌ، وَكَانَ الْإِمَامُ إذْ ذَاكَ صَبِيًّا حَاضِرًا مَعَ أَبِيهِ؛ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي جَوَابِ الرُّومِيِّ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَقَامَ وَاسْتَأْذَنَ مِنْ الْخَلِيفَةِ فَأَذِنَ لَهُ؛ وَكَانَ الرُّومِيُّ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ لَهُ: أَسَائِلٌ أَنْتَ؟
قَالَ: نَعَمْ قَالَ: انْزِلْ؛ مَكَانَك الْأَرْضُ وَمَكَانِي الْمِنْبَرُ فَنَزَلَ الرُّومِيُّ وَصَعِدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَقَالَ: سَلْ
فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ قَبْلَ اللَّهِ تَعَالَى؟
قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الْعَدَدَ؟
قَالَ: نَعَمْ
قَالَ: مَا قَبْلَ الْوَاحِدِ؟.
قَالَ: هُوَ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ
قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْوَاحِدِ الْمَجَازِيِّ اللَّفْظِيِّ شَيْءٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَبْلَ الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ؟
فَقَالَ الرُّومِيُّ: فِي أَيِّ جِهَةٍ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى؟
قَالَ: إذَا أَوْقَدْت السِّرَاجَ؛ فَإِلَى أَيِّ وَجْهٍ نُورُهُ؟ فَإِنَّ ذَاكَ نُورٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ
فَقَالَ: إذَا كَانَ النُّورُ الْمَجَازِيُّ الْمُسْتَفَادُ الزَّائِلُ لَا وَجْهَ لَهُ إلَى جِهَةٍ، فَنُورُ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْبَاقِي الدَّائِمِ الْمُفِيضِ: كَيْفَ يَكُونُ لَهُ جِهَةٌ؟
قَالَ الرُّومِيُّ: بِمَاذَا يَشْتَغِلُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى؟
قَالَ: إذَا كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ مُشَبِّهٌ مِثْلُك أَنْزَلَهُ، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مُوَحِّدٌ مِثْلِي رَفَعَهُ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} . فَتَرَكَ الْمَالَ وَعَادَ إلَى الرُّومِ. احْتَاجَ الْإِمَامُ إلَى الْمَاءِ فِي طَرِيقِ الْحَاجِّ، فَسَاوَمَ أَعْرَابِيًّا قِرْبَةَ مَاءٍ، فَلَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَاهُ بِهَا ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتَ بِالسَّوِيقِ؟ فَقَالَ أُرِيدُهُ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَكَلَ مَا أَرَادَ وَعَطِشَ فَطَلَبَ الْمَاءَ فَلَمْ يُعْطِهِ حَتَّى اشْتَرَى مِنْهُ شَرْبَةً بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ.
وَصِيَّةُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ الرُّشْدُ وَحُسْنُ السِّيرَةِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لَهُ: يَا يَعْقُوبُ وَقِّرْ السُّلْطَانَ وَعَظِّمْ مَنْزِلَتَهُ، وَإِيَّاكَ وَالْكَذِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ