للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

• ومن مواعظ أبي الدرداء - رضي الله عنه - قوله (١):

«ليحذر امرؤٌ أن تبغضه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر»، ثم قال: «أتدري ما هذا؟ العبد يخلو بمعاصي الله - عز وجل -؛ فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر».

يا لها من موعظةٍ بليغةٍ! لا أجد ما أوضِّح ما اشتملت عليه من معانٍ بديعةٍ أحسن ولا أجمل من كلامٍ نفيسٍ لابن الجوزيِّ حول هذه المسألة، حيث يقول رحمه الله:

«إنَّ للخلوة تأثيراتٍ تبين في الجلوة، كم من مؤمنٍ بالله - عز وجل -، يحترمه عند الخلوات، فيترك ما يشتهي حذرًا من عقابه، أو رجاءً لثوابه، أو إجلالًا له، فيكون بذلك الفعل كأنَّه طرح عودًا هندياً على مجمرٍ، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو؟

وعلى قدرٍ المجاهدة في ترك ما يهوى، تقوى محبَّته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطِّيب، ويتفاوت تفاوت العود، فترى عيون الخلق تعظِّم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون لِمَ؟ ولا يقدرون على وصفه؛ لبعدهم عن حقيقة معرفته.

وقد تمتد هذه الأراييح (٢) بعد الموت على قدرها؛ فمنهم من يذكر بالخير مدةً مديدةً ثم يُنسى، ومنهم من يذكر مئة سنةٍ، ثم يخفى ذكره وقبره، ومنهم أعلامٌ يبقى ذكرهم أبدًا.

وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحقّ، فإنَّه


(١) حلية الأولياء (١/ ٢١٥)
(٢) جمع رائحة.

<<  <   >  >>