المواطن، حتى يغشى الناس أمرٌ من أمر الله، فتبيضَّ وجوه وتسودَّ وجوهٌ. ثمَّ تنتقلون منه إلى منزلٍ آخر، فيغشى الناس ظلمةٌ شديدةٌ، ثمَّ يقسم النور، فيُعطى المؤمن نورًا، ويُترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئًا، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور: ٤٠]،ولا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، يقول المنافق للذين آمنوا:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}[الحديد: ١٣]،وهي خَدْعَةُ الله التي خدع بها المنافق، ثمَّ تلا:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}[النساء: ١٤٢]، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور، فلا يجدون شيئًا! فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب! ينادونهم: ألم نكن معكم؟ نصلِّي بصلاتكم، ونغزو بمغازيكم؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد: ١٤] تلا إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد: ١٥]».هذه الموعظة من أبي أُمامة - رضي الله عنه - من الوضوح بمكانٍ، وهي تدلُّ على علم أبي أمامة بمعاني القرآن، واغتنام الفرصة للتذكير بهذه المآلات الخطيرة التي تنتظر الناس في أرض المحشر.
وقد يقول قائلٌ: وهل كان من هدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الوعظ عند القبر؟ فيقال: لم يكن هديًا ثابتًا، بل كان في أحيانٍ قليلةٍ، ويكون لها سبب؛ كعدم جاهزية القبر - كما في حديث البراء المشهور (١) - أو لغير ذلك من الأسباب.
(١) رواه أبو داود ح (٤٧٥٣)، والنسائي في الكبرى ح (٢١٣٩).