تعرض للإنسان في حياته مواقف يتنازعها الصدق والكذب، ويتنازعها رضا مخلوقٍ وغضب الخالق، فهنا يأتي المحكُّ، ويظهر الإيمان، وتبدو آثار المراقبة لله تعالى، والمقطوع به أنَّ من التمس رضا المخلوق في سخط الخالق، عاد حامده من الناس ذامًّا، وحرم التوفيق ولو بعد حينٍ، والعكس صحيحٌ، وتأمَّل ما وقع للثلاثة الذين خلِّفوا، والذين ذكر الله قصتهم في كتابه الكريم خالدةً أبد الدهر!
لقد تخلَّف عن تبوك عشرات الناس، أكثرهم منافقون، لاذوا بالكذب؛ ليرضى عنهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولم يبالوا برضا الله في تلك القضية، بينما ثبت كعب بن مالكٍ وصاحباه، فصدقوا- مع مرارة الصدق التي تجرُّعوها خمسين ليلةً- فكانت العاقبة لهم، بل صاروا أئمةً في الصدق يقتدى بهم، حيث قال الله تعالى مُعقِّبًا على قصتهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: ١١٩].
وهكذا كلُّ من صدق مع الله، صدقه وأنجاه، ومن التمس رضا الخلق بسخطه، تعسَّرت أموره، وربَّما انقلب عليه أسياده، ومن التمس رضاهم، آذوه بعد أن كانوا له مُكرمين!
وبالجملة، فلنتذكَّر قول عائشة رضي الله عنها جيِّدًا، حينما يعرض لنا من عوارض الدُّنيا ما تتنازع فيه النفس وتتردَّد بين حظِّها وبين حقِّ الله:«من أسخط النَّاس برضا الله، كفاه النَّاس، ومن أرضى النَّاس بسخط الله، وكله الله إلى النَّاس»، ومن وكله الله إلى الناس- مهماكثروا وقويت شوكتهم- وكله الله إلى عجزٍ وضعفٍ.