من كل ما تقدم ندرك أن البلاغة العربية منذ أن تولّاها في القرن السابع الهجري أمثال الفخر الرازي والسكاكي لم يدخل على مباحثها مباحث جديدة تثريبها وتبقيها مطّردة النمو والازدهار. ولعلّ سبب ذلك هو ما ران وغلب على العصور المتأخرة من أعراض الجمود الفكري التي لم تصب البلاغة وحدها وإنما تجاوزتها إلى الأدب شعرا ونثرا.
لقد تلقف السكاكي البلاغة العربية التي صنعتها الأجيال السابقة من عبد القاهر والزمخشري وهي زاخرة بالحيوية والحياة مشرقة بالجمال، وكان عليه أن يسلمها إلى من بعده أكثر حيوية وحياة وإشراقا حتى يستمر نموّها وازدهارها.
ولكنه بدل ذلك انكبّ عليها بعقليته العلمية يصوغها ويصبّها ويحصرها في قوالب فلسفية منطقية هادفا من وراء محاورته إلى جمع قواعدها وتبويب مباحثها، ووضع المعالم والحدود المميزة لعلومها.
ولعلّه كان يظن أنه بذلك يسدي إلى البلاغة أجلّ صنيع، وما درى أن محاولته كانت من أهم الأسباب التي قيدت البلاغة وحدّت من نشاطها وحيويتها وانتهت بها تدريجيا إلى حال من الذبول والجفاف.
ولو وقف الأمر بالبلاغة عند صنيع السكاكي لقلنا عثرة على طريقها ستنهض منها، ولكن جاء بعده من نظروا إلى ما أتى به السكاكي على أنه البلاغة فالتزموا به وعكفوا عليه درسا وحفظا، وتلخيصا وشرحا ونظما، مستخدمين في كل ذلك طرائق تقيد العقول بدل أن تحررها، وتقضي على الأذواق والمواهب والملكات بدل أن ترقى بها وتنمّيها ... !!
...
وبعد ... فهذا عرض لنشأة علم البيان وتطوره منذ بدأ في العصر