للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شَيءٌ، أرأَيْتُم مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السموَاتِ والأرض، لَمْ يَنْقص مَا في يَمِينِهِ" (١) وسِرُّ ذلك: صَلاحِيةُ القدرة للإيجاد دائمًا مِن غير عَجْزٍ وقُصُورٍ، والممكن لا يتناهى، فما يُؤخَذُ منها لا يُنْقِصُ شيئًا منها (٢).

وقوله: "إلَّا كمَا ينقص المخيط من البحر" أي: لا ينقصُ شيئًا؛ لأَنَّ الإبرة لا يتعلق بها مِن الماءِ شيءٌ، وهذا بِظَاهِرِهِ مُخَالِفٌ لقول الخضر: "مَا نَقَصَ عِلْمِي وعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ الله إلَّا كمَا نَقَصَ هذا [العُصْفُورُ] (٣) " (٤) فإن نقر العصفور من البحر لا بد أن ينقصه شيئًا -وإن قَلَّ- بخلافِ الإبرَةِ؛ لكن ليس المراد أنَّ عِلْمَهُمَا نَقَصَ مِن عِلمِ الله قليلًا أو كثيرًا؛ إِنَما المُرادُ: تَقريبُ أَنَّهُ لم يَنْقُص مِن عِلْمِ اللهِ أَصْلًا.

ويُحْكَى أنَّ رَجُلًا سأل ابن الجوزي -رحمه الله-: هل ينقص شُرب العصفور من البحر؟ فقال: "فَمَعَهُ شيءٌ يضَعُهُ فيه"؟! (٥).

وهذا جوابٌ على جِهَةِ التَّحقِيق، وقول الخضر لموسى على جهة التَّقْرِيب، وإلَّا لَوْ فَرَضْنَا الوجود مملوءًا حَبًّا وأَخَذَ العُصْفُور منهُ واحِدَةً لَنَقَصَتْ بالضرورة؛ لكن ليس نقصًا مُحْتَفَلًا به (٦).

ففيهِ تَنبِيهُ الخَلْق على الإقبالِ والمَسْأَلةِ؛ فَلَا يحتقر سائل ولا يقتصر:


(١) رواه البخاري (٦/ ٧٣ رقم ٤٦٨٤)، ومسلم (٢/ ٦٩٠ رقم ٩٩٣) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(٢) من قوله: "وهذا مثلٌ ... " إلى هنا أخذه المؤلف -بحروفه- مِنْ كلام القرطبي في "المُفهم" (٦/ ٥٥٥ - ٥٥٦).
(٣) ما بين المعقوفتين من "التعيين" (١٩١)، وهو أيضًا لفظ الحديث، ويدل عليه ما بعده.
(٤) رواه البخاري (١/ ٣٦ رقم ١٢٢ وانظر أطرافه في ٧٤)، ومسلم (٤/ ١٨٤٧ رقم ٢٣٨٠) من حديث ابن عباس عن أُبيِّ بن كَعْب - رضي الله عنهما -.
(٥) ذكرها الطوفي في "التعيين" (١٩١).
(٦) قارن بـ "التعيين" (١٩١)، والفائدة التي سيذكرها المؤلف قارنها أيضًا بالتعيين (١٨٣).

<<  <   >  >>