والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عنده دقة متناهية في الاستنباط، وهذا هو الذي حير كثيراً من الشراح، وجعل بعضهم يحكم عليه بأنه لم يحرر كتابه، ولم يبيض كتابه، بل جعله مسودات تحتاج إلى تبييض، هذا الكلام ليس بصحيح، منشأه عدم فهم مراد البخاري، فله ملاحظ دقيقة جداً خفيت على كثيرٍ من الشراح، فجعل بعضهم أحياناً يقول: ليس بين الحديث وبين الترجمة رابط، وبعضهم يقول: هذا الحديث يتبع الترجمة السابقة، وبعضهم يقول ... إلى غير ذلك من الأقوال، حتى جرؤ بعضهم أن قال: أن إيراد هذا الحديث تحت هذه الترجمة مجرد تعجرف، ونحن نولي -بإذن الله تعالى- هذه التراجم خلال شرح الكتاب فيما سيأتي -إن شاء الله تعالى- عناية تليق بمقام الكتاب -إن شاء الله تعالى-.
سبب اختيار الكتاب أنه مختصر، من أصح الكتب، وأولى منه الأصل (صحيح الإمام البخاري) لكن باعتبار أن من السامعين جمعٌ كبير ممن لا يحتمل سماع كثرة الأسانيد حدثنا فلان قال: حدثنا فلان من عامة الناس ممن يريدون النتيجة والفائدة بسرعة، آثرنا اختيار هذا المختصر، وإلا فالأصل أن الحديث يكون عن الكتاب الأصلي الذي هو البخاري.
هذا المختصر اسمه:(التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح) اختصره الزبيدي من صحيح الإمام البخاري بأقل من ربع حجمه، حذف الأحاديث المكررة والأسانيد فقال في مقدمته:"اعلم أن كتاب الجامع الصحيح للإمام الكبير أبي عبد الله البخاري من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد، إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، فإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهدٍ وطول فتش، ومقصود البخاري -رحمه الله تعالى- بذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصودنا هنا: أخذ أصل الحديث لكونه قد علم أن جميع ما فيه صحيح".
يقول النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم:"وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة، وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به، فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث".