وأيضا ان معرفة السورة منه متوقفة على معرفته فيدور. ويرد على الثاني مثل ثاني ما ورد على الأول إذ معرفة المصحف موقوفة على معرفة القرآن إذ ليس هو إلا ما كتب فيه القرآن فأخذه في تعريفه دور أيضا، هذا وقد قال ساداتنا الصوفية أفاض الله تعالى علينا من فتوحاتهم القدسية: إن القرآن إشارة إلى الذات التي يضمحل بها جميع الصفات فهي المجلى المسمى بالأحدية أنزلها الحق تعالى شأنه على نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون مشهد الأحدية من الأكوان، ومعنى هذا الإنزال أن الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم بكمالها وما ادخر عنه شيء بل أفيض عليه الكل كرما إلهيّا ذاتيا ووصف القرآن في بعض الآيات بالكريم لذلك إذ أي كرم يضاهي هذا الكرم، وأنى تقاس هذه النعمة بسائر النعم، وأما القرآن الحكيم فهوية الحقائق الإلهية يعرج العبد بالتحقق بها في الذات شيئا فشيئا على ما اقتضته الحكمة وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: ٣٢] وهذا الحكم لا ينقطع أبدا إذ لا يزال العبد في ترقّ والحق في تجلّ فسبحان من لا تقيده الأكوان وهو كل يوم في شأن، وأما القرآن العظيم في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: ٨٧] فهو إشارة إلى الجملة الذاتية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الذاتية التي هي في مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشؤون والاعتبارات ولهذا قرن بالعظيم، وأما السبع المثاني فهو ما ظهر عليه في وجوده من التحقق بالصفات السبع، وأما قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: ٢] فهو إشارة إلى أن العبد إذا تجلى عليه الرحمن وجد لذة رحمانية تكسبه معرفة قرآنية فلا يعلم الحق إلا من طريق أسمائه وصفاته، وأما الفرقان عندهم فإشارة إلى حقيقة الأسماء والصفات على اختلاف تنوعاتها فباعتباراتها تتميز كل صفة واسم من غيرها فحصل الفرق في نفس الحق من حيث أسماؤه وصفاته فإن اسمه المنعم غير اسمه المنتقم وصفة الرضا غير صفة الغضب وإليه الإشارة
بقوله:
«سبقت رحمتي غضبي»
وهي متفاوتة المراتب في الفضل نظرا إلى أعيانها لا باعتبار أن في شيء منها نقصا أو مفضولية ولهذا حكمت بعضها على بعض كما يشير إليه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«أعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك»
فكانت المعافاة أفضل من العقوبة والرضا أفضل من السخط فأعاذه بالفاضل مما يليه، وكذا أعاذه بذاته من ذاته فكما أن الفرق حاصل في الأفعال كذلك في الصفات بل في نفس وأحدية الذات التي لا فرق فيها لكن من غريب شؤونها جمعها النقيضين. قال أبو سعيد: عرفت الله تعالى بجمعه بين الضدين، ولكونه صلى الله تعالى عليه وسلم مظهرا للقرآن والفرقان كان خاتم النبيين، وإمام المرسلين. لأنه ما ترك شيئا يحتاج إليه إلا وقد جاء به فلا يجد الذي يأتي بعده من الكمال شيئا مما ينبغي أن ينبه عليه. قال تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] . وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: ١٢] . إلى غير ذلك من الآيات.
«وقد يقال» : القرآن والفرقان إشارتان إلى مقام الجمع والفرق بأقسامهما. قالوا: ولا بد للعبد الكامل منهما، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له. والجمع عندهم شهود الأشياء بالله تعالى والتبري من الحول والقوة إلا بالله وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله تعالى وهو المرتبة الأحدية، والفرق أنواع فرق أول وهو الاحتجاب بالخلق عن الحق وبقاء رسوم الخليقة بحالها وفرق ثان وهو شهود قيام الخلق بالحق ورؤية الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة من غير احتجاب إحداهما عن الأخرى، وفرق الوصف وهو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدة، وفرق الجمع وهو تكثر الواحد بظهوره في المراتب التي هي ظهور شؤون الذات الأحدية وتلك الشؤون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الواحد بصورها وكثيرا ما يطلقون القرآن