للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على أن هؤلاء ليسوا هم كل من اعتزل الفتنة، بل اعتزلها من هو أجل منهم مثل سعد بن أبي وقاص، فإنه لم يكن على ظهر الأرض يوم صفين أفضل منه سوى علي وسعيد بن زيد، أحد العشرة، وهنالك من هو مثلهم، كزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهم (١) .

ومنهم أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه، الذي صدع أيام الفتنة بين ابن الزبير والأمويين والخوارج: "إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش" الحديث، وذلك لأنه "كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين" (٢) .

وبالجملة، هذا هو مذهب أهل الحديث عامة، ومن تأمله ظهر له قوة دلائله النصية، وصدق نتائجه الواقعية، فقد صرح به إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وبنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية (٣) .

روى عنه الخلال أنه قال: ابن عمر وسعد ومن كف عن تلك الفتنة، أليس هو عند بعض الناس أحمد! هذا عليّ لم يضبط الناس، فكيف اليوم والناس على هذا الحال ... السيف لا يعجبني (٤) .

وقال أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله - وقد ذكر عنده عبد الله بن مغفل - فقال: لم يتلبس بشيء من الفتن! وذكر رجل آخر فقال: رحمة الله مات مستورا قبل أن يبتلى بشيء من الدماء (٥) .

وممن صح النقل عنه من أهل الحديث سفيان الثوري رحمه الله، وله كلمة عظيمة في هذا، قال: نأخذ بقول عمر رضي الله عنه في الجماعة، وبقول ابنه في الفرقة (٦) .


(١) جمعت أسماء هؤلاء وغيرهم من تتبعي لأحاديث الفتن، ولو أن أحدا استقصى ذلك لكان عملا مشكورا.
(٢) البخاري (١٣/٦٨) ،والكلام للحافظ ص ٧٣
(٣) وقد ظهر صدق هذا الموقف حين رجع المتوكل إلى السنة، وانقلبت الدولة على رؤوس المبتدعة تنكيلا، وهذا جزاء الصبر وبركة اتباع النصوص، فللسيف موضعه وللحجة موضعها، والنصوص هي الحكم، ويعطي الله البصيرة من يشاء من عباده، فينزل النصوص على الواقع، ويصيب مناط الحكم.
هذا ويلاحظ من كلام الإمام أن المسألة اجتهادية مصلحية؛ لا يترتب على الخلاف فيها تبديع وتضليل، وهكذا كان موقفه من أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله.
(٤) الخلال، كتاب الإيمان للإمام أحمد، لوحة ١٢ من المسند الجامع.
(٥) المرجع السابق نفسه.
(٦) المصدر السابق، ولعل مراده بقول عمر: الشورى والاختيار، وبقول ابنه: الكف عن القتال، ومبايعة من استقرت له الأمور، ولو كان مفضولا.

<<  <   >  >>