للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود) في حد ذاته، (ثم بعد الوجود تختلف حاله بالزيادة والنقصان) ، ويفهم منه أن الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي غير نفس الذات " (١) أهـ.

فالغزالي يثبت أن للإيمان وجودا ذاتيا يتجرد عن وصف الزيادة والنقصان، وهما (الزيادة والنقص) عرضان يطرآن على تلك الذات، وقد استخرج ذلك من عبارة السلف مدعيا في أول كلامه أن هذا هو الفهم الصحيح لها.

وسيأتي بحث قضية الوجود الذاتي في الفقرة التالية، غير أنه لا بد هنا من بيان ما في كلامه من نوع المغالطة والحيدة عن موضع النزاع.

أما المغالطة ففي استدلاله بكون الشيء يزيد وينقص على أن ما له ماهية واقعية معينة، لم يزدد أو ينقص إلا بعد وجودها، فهذا كما لو قيل لك: كم مال زيد من الناس؟ فقلت: يزيد وينقص.

فإن السائل لا يستنتج من الجواب أن لماله مقداراً محدداً؛ يزيد عنه مرة وينقص عنه أخرى مع ثبات هذا المقدار في الوجود والخارج، بل لو حددت المقدار فقلت: يزيد حتى يصل الألف وينقص حتى يصل الصفر، فإن السائل - وغيره - لا يفهم أن لماله حداً مقرراً هو خمسمائة مثلا، وهذه الخمسمائة موجودة على الحقيقة، وإنما هذا من صنيع الذهن وحده، كما أن المتوسط الحسابي في الرياضيات هو عملية عقلية لا وجود لمدلولها في الواقع، حتى لو كان مستخرجا من أرقام واقعية، فكيف بمسألة الإيمان الذي هو أمر معنوي بطبعه؟

والفهم الصحيح لعبارة السلف: أن إيمان كل إنسان قابل للزيادة والنقصان كل وقت، وعليه فالزيادة والنقص هما بالنسبة لمستوى الإيمان وحاله وقت وقوع أي منهما، لا بالنسبة لمستوى ثابت محدد في حق كل أحد في كل وقت. ومما يوضح ذلك: أن السلف لا يعتبرون مجرد نقص الإيمان كفرا، ولو أنهم اعتقدوا أن له حدا معينا ثابتا وقد يزيد عليه أو ينقص عنه لوافقوا أكثر المرجئة القائلين بأن نقصه كفر؛ فإن هذه هي أعظم شبهة يحتج بها أولئك، وهي مبنية على قولهم أن التصديق قدر ثابت، متى نقص صار شكا، ومتى قبل الزيادة صار ناقصا فهو شك أيضا، فمن هنا أنكروا الزيادة والنقصان.


(١) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (٥/٢٥٦- ٢٥٧)
(٢) كما فعل الغزالي هنا، وكما فعل سائرهم في قولهم: إن (نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، وإنما الزيادة والنقص في الثمرات والكمالات - أي الأعمال) . انظر ما نقله عنهم النووي في شرح مسلم (١/١٤٨) ، وابن حجر في الفتح (١/٤٦)

<<  <   >  >>