للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمن الواضح أن (وجود هذه الحقائق في حد ذاتها) لا يزيد عن كونه تقديراً ذهنيا، وأن ما يوجد في الواقع لا يوجد إلا مقيدا موصوفا، فليس هناك وجود واقعي مطلق من كل قيد ووصف إلا في وهم فلاسفة اليونان ومن اتبعهم كالغزالي وأمثاله كما سيتضح في الفقرة التالية.

وعلى ضوء هذه الحقائق نستطيع أن ننظر إلى تعريف السلف للإيمان وإلى ما هو أعظم من ذلك؛ وهو ما عرفه به النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه.

فالسلف حين قالوا: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لم يقصدوا الخوض في هذه المتاهات الفلسفية أصلاً، ولم يريدوا بهذه العبارة حقيقة التعريف العامة فضلا عن أن يقصدوا التعريف المنطقي بالذات.

أي إنهم لم يقصدوا تمييز الماهية عن غيرها - كالعادة في عامة العلوم - فضلا عن أن يأتوا بحد خاص يصورها من حيث هي هي، كالشأن في المنطق.

وإنما غرضهم بيان حقيقته الشرعية ووصفها بما يظهر بطلان دعوى من زعم أنه اعتقاد مجرد لا يدخل العمل فيه، واشتقوا هذا البيان والوصف من فهم متكامل لنصوص الوحي فيه، ومن واقع حي عاشوه وتربوا عليه.

وإذ قد بينا الفرق الجوهري بين غرض فلاسفة اليونان - ومن اقتفاهم من المتكلمين - من التعريف، وبين غرض سائر أرباب العلوم والفنون منه - ومنهم قدماء المتكلمين -، فما بالك بالفارق بين غرض هؤلاء جميعاً وبين سلف الأمة الصالح؟

فأما تمييز الإيمان عن غيره، فلعمر الحق ما على وجه الأرض أعرف عند المسلمين من الإيمان - الذي هو دينهم - ولا بعد بيان الله ورسوله له بيان، ولقد كان عوام المسلمين قبل ظهور لوثة الفلسفة وبعدها أرفع عقلا من أن يسألوا عما يميز الإيمان عن غيره، أو يرتابوا في زيادته ونقصانه، وعلى هذا أكثر المسلمين ولله الحمد، لا يشذ عنه إلا من فسدت فطرته بالتفلسف والتمنطق، فما بالك بالصدر الأول وعلماء السلف والأجلاء؟!

ولولا هذا ما تواردت أذهانهم واتفقت كلمتهم في وقت واحد دون تشاور أو تواطؤ على عبارة واحدة كما ورى عنهم الإمام البخاري رحمه الله، قال: " كتبت

<<  <   >  >>