للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإن الحافظ ابن حجر والطيبي والكرماني تأثروا بذلك - ربما بدون شعور - حين استشكلوا لماذا لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل بأنه التصديق!! وخرجوا ذلك بأنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن معنى لفظه! أو أن في الجواب تضمينا للمعنى اللغوي! أو أن المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد الإيمان اللغوي (١)

فالمتمنطقون من المتكلمين - وهم أكثر المتأخرين كما سبق - افترضوا النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة أرسطو أو فرفريوس وهو يناظر السفسطيين!! والآخرون - ومن تأثر بهم من الشراح - افترضوه بمنزلة الخليل بن أحمد أو الأصمعي وهو يجيب الناس عن معاني الألفاظ اللغوية!

والله تعالى نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الخوض الفلسفي في المطلقات والماهيات المجردة وسائر مباحثهم، بل نزه أصحابه الذين جاء جبريل يعلمهم دينهم أن يكون فيهم من ينكر حقيقة الإيمان، بل كفار قريش وسائر العرب لم يعرفوا السفسطة، كما لم تعرفها أمة سوية على ظهر الأرض.

أما مجرد الشرح اللغوي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجل شأنا من أن يكون همه في مثل هذه المقامات العليا من التعليم؛ حيث الأمر يتعلق بأصل الدين وأسمائه، وأصحابه صلى الله عليه وسلم لا يحتاجون أن يتعلموا لغتهم، ولو أرادوا ذلك لأمكنهم من غير طريقه صلى الله عليه وسلم أو معها، كما أن مجيء جبريل عليه السلام أعظم قدرا من أن يكون لمجرد التعريف اللغوي.

فظهر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التعليم الشرعي أجاب الجواب الشرعي الكامل الذي لا يجوز العدول عنه سواء ما ورد في هذين الحديثين أو في غيرهما كحديث الشعب، فلا وجه للاستشكال أصلا، وأن قول السلف: " قول وعمل يزيد وينقص " هي أصدق عبارة في الكشف عما تضمنته هذه الأحاديث مع الآيات من معنى، وأن ما أطال فيه المتكلمون من التفلسف وأرغمونا على الإطالة في رده لا يجوز التعريج عليه، وهذا ما نزيده إيضاحا بالفقرات التالية لهذه.

* القضية الثانية: وجود الأنواع خارج الذهن:

استحوذت السفسطة على تفكير أكثر الشباب الإغريقيين وأصبحت كأنما هي الفكرة المسيطرة على أثينا، وعز على أساطين الفلسفة والجدل وعلى رأسهم


(١) انظر: الفتح (١/١١٧)

<<  <   >  >>